الطويل يكتب: جدل العتبة والتعدّد.. بين جموح تأبيد البلقنة وطموح تأكيد العقلنة

محمد الطويل

مقدمة:
الانتخابات والدمقرطة.. علاقة التلازم وامتناع الانفكاك
تشكّل العملية الانتخابية النزيهة والشفافة واحدة من أهم مؤشرات تقدّم المسارات الديمقراطية واستقرار الأنظمة السياسية المتبنية لخيار المشاركة السياسية، ولفتح المجال أمام عموم المواطنين لممارسة حقهم في تدبير شأنهم العام الوطني والمحلي وفق ما يرتضونه من توجهات وتفضيلات تعبّر عن تحيزاتهم السياسية، وتساهم في بلورة سياسات عمومية تخدم مصالحهم الوطنية الراهنة والمستقبلية.
ذلك أن السياسة، خارج نطاق تقاطبات الصراع حول السلطة والبحث على التوازن كما فسّرها موريس دوفرجيه؛ هي، كما عرّفها جون ماري دونكان، في المبتدأ الأول قدرة على الاختيار، والاختيار وحده، والذي من دونه تنتفي السياسية، ليبرز “عالم اللاسياسة” حيث حكم السلطوية الذي تنتفي معه أي إمكانية للحديث عن الحق في المشاركة السياسية، أو حيث سياسة التقنوقراط التي يؤمن أصحابها بأن حلول المشكلات المجتمعية كامنة في تدبير الأشياء والتقنيات لا في إبداع الأفكار والتوجهات.
وعلى هذا الأساس، يعتبر أغلب علماء السياسة ومفكروها أن كلاً من السلطوية والتقنوقراطية شكلان من أشكال اغتيال الروح العميقة للسياسية ومصادرة معناها القويم، لأنها في الأصل [أي السياسة] مساحة وموضوع لتدافع القوى السياسية [هي هنا بالأساس الأحزاب] على أساس من الانحياز للاختيارات والإيديولجيات والبرامج، في سعيها الدائم للتعبير عن الحساسيات المجتمعية والتفضيلات الشعبية التي تصدع عنها أو تمثلها، والتي تعمل على تنزيلها على أرض الواقع في صورة برامج وسياسات عمومية، من خلال قناة الانتخاب، والتي تعد القناة الأكثر ديمقراطية والمسلك المؤسساتي الأسلم لفرز المؤهل لممارسة الشأن العام باسم الناس.. كما أراد الناس ولصالحهم.
لقد كانت هذه التوجهات أحد الأسباب المؤطرة لنضال أجيال من المغاربة طيلة العقود الستة الأخيرة من مغرب ما بعد الاستقلال. وهي الأجيال التي كانت تتوق إلى تثبيت قواعد ممارسة ديمقراطية أصيلة ومسؤولة، تقطع مع واقع “المراوحة الديمقراطية” الذي بتنا نتخبطه لعقود من الزمن.. نتقدم حينا ونتأخر حينا آخر. وهو ما حسمه دستور 2011، نصّاً، حين أكد تبني المغرب للخيار الديمقراطي ثابتا من ثوابت الأمة إلى جانب “الدين الإسلامي السمح” و”الوحدة الوطنية متعددة الروافد” و”الملكية الدستورية”.
    •    التوجه الدستوري نحو تعزيز دمقرطة العملية الانتخابية بالمغرب
.. فبالرغم من أننا نفتقد إلى المحاضر التي توثق للأعمال التحضيرية لإعداد مقترح دستور 2011 من أجل الاستعانة بها لاستجلاء الغايات والتوجهات المضمرة للقانون الدستوري المغربي، إلا أن الانكباب على قراءة مختلف نصوص الدستور قراءة نسقية بمنطق مقاصدي يجعلنا نقف على العديد من المؤشرات التي ترفع الحجب عن ذلك الأفق السياسي المعتبر الذي يحدو المشرع الدستوري نحو بث مزيد من الروح السياسية في العملية الانتخابية وتوفير مختلف الشروط والضمانات الكفيلة بدمقرطتها.
وليس خفيا أن إصدار الدستور الحالي قد شكّل لحظة مفصلية في الحياة السياسية والدستورية، والتي توجت كل النضالات التي انخرط فيها أجيال من المغاربة لعقود من الزمن، وهي النضالات التي عبر عنها الحراك الديمقراطي الذي شهده المغرب بمناسبة اندلاع الانتفاضات الشعبية بالمنطقة العربية لمواجهة مختلف صنوف الاستبداد والفساد، والتي كانت ولازالت من بين أكبر المعيقات التي تعرقل مسار تطور شعوب العربية وتنمية واقعها السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
لقد كرس دستور 2011 الكثير من المقتضيات ذات العلاقة بموضوع عقلنة ممارسة السلطة ودمقرطتها، وهي القضايا التي ظلت لعقود مجرد نقاط معلّقة في جدول أعمال المطالبات الإصلاحية السياسية والاجتماعية والمنادية بالحاجة إلى مزيد من الدمقرطة والتنمية والعدالة الاجتماعية.
ولعله من بين هذه المسائل التي عُدَّ أمر دسترتها مكسبا ديموقراطيا حقيقيا ما نص عليه دستور المملكة في فصله الأول بأن: 1) نظام الحكم، فضلا عن طابعه الملكي الدستوري، هو ذو طبيعة ديمقراطية برلمانية؛ ثم (2) اعتماد مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، والذي ببرهان الخلف يعني أنه لا يصلح لتحمل المسؤولية العمومية إلا من يمكن مساءلته ومحاسبته، الأمر الذي يقطع الطريق على الكثير من الدعاوى الزائفة والمشاغبات السياسية التي تدعو إلى التملّص عن هذا النهج والحيد عن هذا المسار من خلال الدعوة إلى إنشاء حكومة خبراء وتقنوقراط.
ولقد تجسد هذا المبدأ الدستوري في العديد من الإجراءات الدستورية الأخرى علّ أهمها: أ) أن اختيار الأمة في انتداب ممثليها لا يتم إلا عبر الانتخابات التي يُشترط فيها أن تكون حرةً ونزيهة ومنتظمة (الفصل 2 من الدستور)؛ ب) ثم اعتبار هذا الانتخابات الحرة والنزيهة والشفافة هي [وحدها دون غيرها] أساس مشروعية التمثيل الديمقراطي (الفصل 11 من الدستور)، مع ضمان كافة التدابير التي تكفل الطابع التنافسي لهذه الانتخابات؛ ج) وكذا، كفالة حق كافة المواطنين في الترشح والتصويت، باعتبار ذلك حقا وواجبا في آن واحد.
وبإزاء كل هذه المقتضيات التي بات يحفل بها الدستور الجاري به العمل، يُعد الفصل 47 أحد أهمها، لا فيما له علاقة مباشرة بموضوع تعيين رئيس الحكومة، ولكن في التوجّه الذي استند إليه المشرع الدستوري في تثبيت مختلف الاستحقاقات التي يستوجبها أمر دمقرطة العملية الانتخابية التي من المفترض أن تكون المعبر الوحيد لإفراز وتعيين المعني برئاسة الجهاز الحكومي. وهو الأمر الذي زكّاه اشتراط الدستور تصويت مجلس النواب (المنتخب) بالأغلبية المطلقة على البرنامج الذي يتقدم به رئيس الحكومة، وذلك حتى تعتبر هذه الحكومة منتصبة (الفصل 89).
وذلك بخلاف الوضع القائم في الدساتير السابقة والتي كانت تكتفي بالتعيين الملكي لكي تعتبر الحكومة قائمة (الفصل 24 من دستور 96)، إذ لم يكن الوزير الأول آنذاك معنيا سوى بتقديم برنامج، هو أقرب إلى تصريح حكومي دون اشتراط التصويت البرلماني عليه (الفصل 60 من دستور 96). حيث لم يكن ممكنا الاعتراض عليه إلا وفقا للمسطرة الدستورية المنصوص عليها في الفصل 75 من هذا الدستور (وهي المسطرة التي كانت متعلقة بموضوع سحب الثقة من الحكومة)، وكأننا بصدد حكومة قائمة بمجرد وقوع تعيين الملك لها دون حاجة إلى تنصيب البرلمان لها. وهو ما كان يفرغ الانتخابات من مضمونها السياسي وينفي عنها نفسَها الديمقراطي، حيث لم تكن الانتخابات حاسمة في اختيار مدبري الشأن العام، مادام أن الدساتير السابقة كانت تتيح إمكان تعيين وزير أول لم يخض الانتخابات أصلا، وغير محتاج إلى أن يكون منتميا لحزب سياسي، وغير ملزم بالرجوع إلى الشعب للدفاع عن حصيلته والخضوع لتقييم المواطن له.
على أي، الغرض من هذا الاستعراض الأفقي العاجل، هو إبراز التوجه الدستوري الواضح والصريح نحو تثبيت أركان سياسة وممارسة انتخابيتين قائمتين على التنافس السياسي والحسم الديمقراطي. ولعله الأمر الذي عبرت عنه الإرادة الملكية حين التزامها بمبدأ اختيار رئيس الحكومة من الحزب الذي تصدر الانتخابات في ثلاثة أزمنة مختلفة (2011 و2016 و2017)، وبسياقات متفاوتة.
    •    التعددية السياسية على مشرحة العتبة الانتخابية
بكل تأكيد، كان انخراط المغرب في اعتماد نظام التعددية الحزبية وممانعته لبعض من النزوعات، التي تسربت إلى بعض الفاعلين الحزبيين بالمغرب وبغيره من البلدان تأثرا بالإيديولوجيات الشمولية، خطوة مبكرة لقطع الطريق نحو أي نزعة هيمنية أو تسلطية. وهو الأمر الذي بات يشكل مكسبا ديمقراطيا مهماً كرّس الطابع التنافسي للأحزاب، ولو على سبيل الافتراض والإمكان. حيث ظل أمر تمثيل المتعدد سياسيا وحزبيا والمتنوع ثقافيا واجتماعيا موكولا إلى الملك ومحصورا في شخصه، بما هو مؤسسة تعبر عن المكوِّن السيادي للدولة والمتعالي عن متعلقات التنافس السياسي و”التسابق” الانتخابي.
وقد تبّث التاريخ السياسي المغربي هذا الطابع، منذ أن انتبه المغاربة إلى ضرورة اعتماد الملكية كنظام للحكم، وجعل الملكية في منأى عن منطق الصراع وواقع التقاطب، فاختاروا ملكية على أساس شرعية الشرف المتسامي عن صراعات العصب وتناقضات الفرقاء، ليوكل إلى الملك دور ضبط ورعاية توازنات التعدّد السياسي والاقتصادي والتنوّع الثقافي والاجتماعي، وذلك من خلال المهام التاريخية الموكولة إليه، والتي من بينها أدوار التوجيه والتحكيم الحائلة دون أن تجور فئة على فئة أو تبغي فرقة على أخرى.
ومع الإقرار بهذه الحقيقة التي تختزنها الخبرة السياسية التاريخية للمغاربة، إلا أن ذلك لا يمنع من إمكانية الحديث على مواصفات هذه التعددية السياسية والتنوع الحزبي، والذي يلزمه أن يكون تعددا سياسيا وتنوعا إيديلوجيا حقيقا ومعبّرا، لا تعددا زائفا وتنوعاً مغشوشا. تعدّد سياسي قادر على ترجمة ما يعتمل داخل المجتمع المغربي من ديناميات وحساسيات وتوجهات، من المفروض أن تجد تجلياتها فيما تعتمده الأحزاب السياسية من إيديولوجيات سياسية ومذهبيات فكرية، أو فيما تصوغه في مذكرات مطلبية أو تدعو له من برامج انتخابية، أو فيما تنفذه من سياسيات وبرامج عمومية وبرامج.
لذلك، وعلى قيمة الوعي بحيوية الخاصية التعددية للنسق السياسي الحزبي الوطني، إلا أن هذا الطابع يلزمه أن يكون تعدداً معقلنا لا مبلقنا، وتنوعا معقولا رشيدا ومسؤولا لا تنوعا مصطنعا تم فبركته لغاية خدمة أجندة “لاسياسية” ولا ديمقراطية هدفها التشويش على الوعي السياسي العام والتلاعب باستقرار المؤسسات وإفراغها من مضمونها التمثيلي.
اليوم ونحن أمام مشهد حزبي يضم ما يدنو من عتبة الأربعين حزبا، أغلبها أحزاب وهمية ومجرد دكاكين انتخابية مفتقرة إلى شروط مسمى حزب سياسي، وأقل تلك الشروط ما نص عليها الفصل السابع من الدستور، والذي يُحمل الأحزاب السياسية أمانة تأطير المواطنات والمواطنين وتكوينهم سياسيا، وواجب تعزيز انخراطهم في الحياة الوطنية وتدبير الشأن العام.
وليس من باب المجازفة في القول، بأن أغلب المسمى أحزابا هي أقرب إلى “كيانيات” لا هويات سياسية لها ولا أساس فكري وإيديلوجي ينتظم اجتماعها، وهي على كثرتها لا تعبر عن أي حساسية مجتمعية، ولا تتمتع بأي امتداد شعبي. أغلبها أحزاب صُنعت في سياق الصراع السياسي الذي شهده المغرب في العقود السابقة، وجسّدت رغبة الإدارة في اصطناع أحزاب (هنا هي أحزاب الإدارة) من أجل خلق نوع من التوازن مع الأحزاب السياسية المتمتعة بقدر من التجذر الاجتماعي والتي كانت تمتلك طرحا فكريا ومشروعا مجتمعيا وعرضا سياسيا يؤكد الحاجة إلى السياسة ويكرس الجدوى منها.
وللخروج من هذا المأزق، دفع المشرع الدستوري نحو تطوير الحياة الحزبية من خلال الدعوة إلى احترام المبادئ الديمقراطية في تسيير الأحزاب لشؤونها، لأن أغلب الأحزاب (المصطنعة) لا تعمل وفق مبادئ الديمقراطية في تسيير شؤونها (الفصل 7 من الدستور). كما أن القانون التنظيمي الخاص بالأحزاب، والذي يعتبر عنصرا من عناصر الكتلة الدستورية، قد أوجب توفر أي حزب على عدد من الأنظمة التي تحفزه على دمقرطة شأنه الداخلي (المواد 24 و25 و26 و27 و28 في القانون التنظيمي للأحزاب).
ولمزيد من ترشيد الحياة الحزبية ومعالجة عطب تعدديتها الزائفة، فتح المشرع الدستوري الإمكان واسعا أمام الأحزاب لتشكيل اتحادات فيما بينها، بل وإمكانية اندماجها في إطارات سياسية موحدة، بدل هذا التوزيع المبالغ فيه.
وإلى جانب هذه الإجراءات، اعتمد المشرع الدستوري العديد من الإجراءات الأخرى، علّ أهمها الإجراءات المتعلقة بالتأطير القانوني للانتخابات، والتي من بينها اعتماد النمط اللائحي بما يقوي التوجه السياسي للأحزاب بحكم أن التصويت عليها يكون سياسيا وليس لأي اعتبار آخر؛ وكذا اشتراط العتبة الانتخابية والتي تعد أحد أهم الاستحقاقات التي تفرض على الأحزاب السياسية نهوضها بواجبات التواصل مع الرأي العام وتأطير المواطنين طيلة أيام السنة من أجل أن توجد لها قاعدة انتخابية موالية لها. لقد شكل اعتماد شرط العتبة الانتخابية فرصة مواتية لتحفيز الأحزاب على العمل الجدي والمستمر غير المرتبط باللحظة الانتخابية، كما شكل سدا للحيلولة دون أن تنتصب لتدبير الشأن العام أشباه أحزاب سياسية تساهم في تشتيت أصوات الناخبين والعبث بالحياة السياسية والاستقرار المؤسساتي.
    •    في الحاجة إلى عتبة انتخابية: دامجة غير إقصائية.. معقلنة للتعدد ومقاومة للبلقنة
بالفعل، لقد ساهمت العتبة الانتخابية في تحقيق العديد من مقاصد المشرع الدستوري والتفاعل الإيجابي مع المطالب المجتمعية المتنامية من أجل عقلنة التعددية الحزبية من خلال دفع الأحزاب إلى ترشيد وجودها وتقوية أدائها السياسي والنضالي. كما كفل مبدأ اعتماد عتبة انتخابية استقرارا معتبرا للمؤسسات التشريعية والتنفيذية (انظر قرار المحكمة الدستورية رقم 924 الذي أكد على أن توطيد وتقوية المؤسسات يعد غاية دستورية)، وهو الاستقرار المستند إلى نتائج انتخابية معبّرة وموسومة بحد معقول من الثبات.
فمثلا، مكنت العتبة الانتخابية سنة 2011 من تشكيل برلمان مكوّن من 16 حزبا سياسيا فقط، في مقابل العدد الهائل للأحزاب بالمغرب والذي، كما سبقت الإشارة إليه، بات يرنو من الأربعين. كما أن الإصرار على اتباع نفس النهج، وبالرغم من تخفيض العتبة من 6% إلى 3%، عزز فرص استمرار مسلسل الترشيد حيث لم يلج إلى البرلمان سنة 2016 سوى 12 حزبا. وهو الأمر الذي كان له دلالات كبيرة على صعيد الحياة الحزبية ومخرجات العملية الانتخابية.
فبفضل العتبة الانتخابية، مع مختلف آليات دمقرطة العملية الانتخابية، شرع المغرب في تلمس مساره نحو حماية المشهد الحزبي من تهديدات البلقنة التي أعاقت تطور الحياة السياسية، وساهمت في عرقلة تجربة الانتقال الديمقراطي. كما أفضت إلى تشكيل مؤسسات، تشريعية وتنفيذية، حائزة لشروط الانسجام وللحدود الضرورية من التشكيل العقلاني المتوازن، لا سيما من خلال خلق فرق برلمانية متماسكة ومتجانسة والحيلولة دون تشتت أصوات الناخبين.
ويبدو ظاهرا، أن الحاجة إلى عتبة انتخابية متوازنة وإدماجية ومسؤولة لازالت قائمة، لأنها ستجمع بين همّي عقلنة مخرجات العملية الانتخابية دون خطر الإضرار بواقع التعددية الحزبية. ثم من خلال تشجيع القوى الحزبية، كبيرة ومتوسطة وصغيرة، إلى تشكيل التحالفات السياسية والائتلافات الانتخابية، بما سيسهم في تطوير الحياة السياسية ويضمن لها الحدود المعقولة والمسؤولة للاستقرار المؤسساتي والسياسي.

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.