محمد يتيم
تداول البعض في الآونة الأخيرة بأن هناك أزمة أفكار داخل حزب العدالة والتنمية ، وهي فرضية تحتاج إلى مناقشة وتمحيص ، ويسعى هذا المقال إلى إثارة عدد من الجوانب المرتبطة بالقضية والمرتبطة بعلاقة الأفكار بالممارسة السياسية ، وبالشروط التي تجعل للأفكار وظيفة إصلاحية وتغييرية .
وإذ أقرر منذ البداية أن حركة الأفكار حركة لا ينبغي أن تتوقف ، وأن حزب العدالة والتنمية في حاجة متواصلة لإبداع فكري وسياسي وإلى مساءلة متواصلة ليس فقط لكسبه السياسي وإنما أيضا لكسبه في هذا المجال ، وهي مساءلة معنية بها التنظيمات السياسية والاجتماعية والمدنية بل والمجتمعات بأسرها لمكانة الأفكار وتطرح نفسها بحدة بالنظر إلى التحول الحاصل في السلوك الثقافي في علاقة بالتحول الحاصل في تكنولوجيا الاتصال التي تعتمد على وفرة المعلومات وكثرة استهلاكها مع تراجع ” القراءة ” ، وما تمكن منه من أخذ مسافة نقدية مع الأحداث والوقائع ، وتحول السلوك الثقافي عموما إلى ردود أفعال شرطية منعكسة ، يطرح أسئلة جادة حول موقع ودور الفكر والثقافة ، والمفكر والمثقف ، لصالح المدون أو المؤثر ،
أقول إنه رغم ذلك يتعين أن نقرر أن عددا مهما ممن هم مسؤولون في حزب العدالة والتنمية منذ التأسيس ، لهم وما يزال رصيد منهجي وفكري تجديدي متقدم تعكسه عدد من مؤلفاتهم وإسهاماتهم ظهرت تجلياتها واضحة في وثائق الحزب وفي تناول قضايا المشاركة السياسية والديمقراطية وحقوق الإنسان وقضايا المرأة والكونية والخصوصية والحريات الفردية والجماعية ، والتمييز بين الدعوي والسياسي …
كما يوجد في الحزب عدد من الشباب الواعد ممن استفادوا من تكوينات عصرية في المجالات المختلفة للعلوم القانونية والعلوم الاجتماعية ممن يحق الاعتزاز بأنهم من نتاج المدرسة الفكرية التي أثمرت التجربة السياسية للحزب وفرادتها في المنطقة ، ويرجى منهم إتمام وتطوير ما بدأه ما يسميه البعض من الرعيل الأول ، للحاجة المتواصلة للتجديد الفكري والمنهجي
كما أنه من المفيد أيضا أن تظل ضمن أي حركة سياسية مجموعة متميزة تفكر “خارج الإطار ” ، تمارس النقد والاختلاف مع بعض اختيارات الحزب ما دام عملها متسما بالشروط المعرفية والأخلاقية والشروط المؤسساتية لممارسة النقد والاختلاف مع الاختيارات السائدة فكريا وسياسيا .
فتجربة الحزب وأصول عدد من قياداته ومناضليه تبين أن التحولات الفكرية إنما كانت تشق طريقها من خلال تأسيس عمليات مراجعة متواصلة وتجديد فكري مواكب ومتدرج ومن خلال عمل ثقافي وتربوي ، ولكن أيضا من خلال فضاء مؤسساتي يمكن من التملك الجماعي أو التملك الثقافي لفكرة أو مسار إصلاحي أو اختيار سياسي .
لكن تقرير ذلك لا يمنع من طرح علاقة الفكر بالسياسة أو النظرية بالممارسة ومناقشة بعض المسلمات أو المصادرات التي هي ليست كذلك ناهيك عن التسليم بما بني عليها من استنتاجات ومنها :
أولا : مصادرة غير مسلمة أن التعثر السياسي لمسار حزب معين يمكن أن يرجع إلى أزمة أفكار أو إلى الفقر الذي يصيب الأفكار فيه ، والمضمون السياسي لفكره،
ولست في حاجة إلى التأكيد أن في هذا تبسيطا من الناحية النظرية لعلاقة الفكر بالواقع ، وهي العلاقة التي حدثت فيها مغالاة عبر تاريخ الفكر الفلسفي من قبل هذا الطرف أو ذاك ، حيث تراوح الجواب عليها بين المذاهب الفلسفية المادية والمذاهب المثالية حيث أعطت المذاهب المادية الأسبقية للواقع الاجتماعي والاقتصادي بكل معطياته وتأثيراته على الفكر ، مع اعتراف ماركس نفسه بالاستقلال النسبي للفكر على الواقع ، في حين أعطت المذاهب المثالية الأسبقية للفكر والعقل ومقولاته على الواقع ومدركاته المباشرة .
ثانيا : يكشف الواقع التاريخي أن الأفكار مهما كانت متقدمة من الناحية العلمية والسياسية فإنها لا تشكل شرطا كافيا للنجاح في مجابهة تعقيدات الواقع وتحدياته ، والدليل على ذلك أن كبار الفلاسفة قد بنوا نظريات فلسفية متقدمة في ” السياسة ” على شاكلة أفلاطون وكتاب ” الجمهورية : ، وعلى شاكلة الفارابي في نظريته حول “المدينة الفاضلة ” . بل الأكثر من ذلك أن الأنبياء الذين جاءوا بدعوات إصلاحية أو ” أفكار “إصلاحية متقدمة على زمانهم ، لكن دعواتهم لم يكتب لها النجاح ليس بسبب في قصور الفكرة الإصلاحية بل لشروط موضوعية خارج إرادتهم ، حيث هناك ما يسمى ب” الإمكان الإصلاحي الموضوعي ” أو ” الشرط الموضوعي في الإصلاح ، وممكنات الإصلاح ، وهذا مجال لنقاس واسع تكلم فيه ابن خلدون في نظرية العصبية وتلكم فيها علماء السياسية الشرعية بعد الخلاف السياسي الأول الذي وقع بين المسلمين الأوائل ،
وفي هذه الحالة يختلف السياسي عن الداعية لأنه إذا كان منطلق الداعية في الأصل في هو ” قل كلمتك وامش ، أي تبليغ الفكرة وإقامة الحجة ، فإن منطق السياسي في الأصل هو ” ما كان الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد من الفساد ” أي أن السياسة فن الممكن والمقدور عليه ، وعلى هذا الأساس يمكن تقييم أداء الداعية وأداء السياسي .
ثالثا : التفكير استباق ومواكبة واعتبار .
وعند التأمل في تاريخ الأفكار والتفكير نستطيع أن نميز بين ثلاثة أنماط من التفكير : تفكير استباقي ، وتفكير مواكب ، وتفكير اعتباري .
التفكير الاستباقي هو تفكير إبداعي ، وهو تفكير خاص بطبقة من المبدعين والنبغاء الناذر معدنهم والسابقين على زمانهم ، يكون هؤلاء وفي الغالب غرباء في مجتمعهم ، بل قد يكونون ضحايا لمصادمتهم للفكر السائد في تلك المجتمعات كما حدث مع عدد من الأنبياء ، ومع عدد من الفلاسفة والمفكرين في التاريخ الذين ذهبوا ضحية لأفكارهم ومصادمتهم السائد من القناعات والمعتقدات مثلما كان شأن سقراط وجاليلو..
التفكير الموكب : هو التفكير الذي يكون نتيجة تفاعل مع الواقع ومشروط بأسباب نزوله . والقرآن الكريم المنزل من عند الحكيم الخبير ارتبط في عدد كبير من آياته وسوره بأسباب النزول .
كما أنه جاء مستدركا على رسول الله في عدد من الحالات منها حكم التعامل مع الأسرى المحاربين بعد غزوة بدر (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا) ) وفي قضية المرأة التي جاءت تشتكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم زوجها وفي قضية زواجه من طليقة مولاه زيد بن حارثة حين قال له :” وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ” ، وفي قضية الأعمى الذي جاءه سائلا ان يعلمه مما علمه الله فأعرض عنه منشغلا بمجادلة كبراء قريش … والأمثلة كثيرة ومتعددة..:
أما التفكير الاعتباري فهو الفكر الذي يتجاوز الواقع المعيش إلى واقع أرحب زمنيا ومكانيا وينطلق من التأمل في وقائع تاريخية فيجمع الأشباه والنظائر فيها و يقيس وقائع طارئة على وقائع تاريخية باحثا عن ” القانون المشترك ” الذي يحكمها وعن السنة المضطردة التي لا تتخلف كما في قوله تعالى ” قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين”
وفىما أوردناه اعلاه عن اين خلدون نموذج عن ذلك
ليس صحيحا دوما أن الفكر ينبغي أن يكون مستبقا لواقعه، فالمساحة التي يشتغل فيها الفكر هي الواقع المعيش نعم ولكن أيضا الواقع التاريخي والواقع المتوقع أي المستقبل أو المآل المتوقع .
أن التفكير المنبثق من عنت اللحظة وتحدياتها والواقع وتعقيداتها هو أحد أنواع التفكير بل إن الاستجابة للتحديات هو أحد العوامل التي تفسر ميلاد الحضارات حسب توينبي. وهو علامة على حيوية المجتمعات وقدرتها على الملاءمة والتعامل مع الاكراهات لمواجهتها أو التقليل من أضرارها.
هل التفكير المواكب والتفكير الاعتباري تفكيران تبريريان ؟
يصف البعض خطأ التفكير المواكب وحتى التفكير الاعتباري بأنهما ليسا سوى تفكيرين ” تبريرين” لعدة وجوه نذكر منها :
1- إن ” التبرير” ليس دوما عملا سلبيا سواء من الناحية المعرفية أو السيكولوجية ، فالتبرير معرفيا هو نمط من أنماط الحجاج والتدافع الفكري ، وهو بهذا المعنى عمل سبق إليه عدد من الفلاسفة والمفكرين ، ومنهم فيلسوف الغرب الإسلامي ابن رشد حين ذهب يِؤصل لمشروعية التفكير الفلسفي من خلال القرآن والسنة في كتابه : ” فصل المقال بين الشريعة والاتصال ” وغيره كثير من القدامي والمحدثين ، وذلك سعى أن يجد شرعية أو مسوغا لمشروعية الاشتغال بالحكمة من داخل نصوص الشريعة
2- إن ” التبرير” أو ” التسويغ ” أو ” التأويل السائغ ” بلغة علماء المسلمين ، هو نمط من أنماط التفكير ، هو تفكير يعبر عن قدرة كبيرة على التكيف مع تحديات الواقع ، وهو مسلك إيجابي حين يكون إدراكا موضوعيا لمعطيات تلك الواقع وإكراهاته ، فضلا عن أنه آلية نفسية تمكن من الصبر والاصطبار على مواصلة الإصلاح مراعاة للسنن والقوانين ، وفي ظل شروط لا تسمح بتحقيق المأمول مما يفتح المجال للعمل من أجل استفراغ الوسع في تحقيق الممكن المقدور عليه .
3- إن من عقائد المسلمين الإيمان بالقدر خيره وشره ، ونحن حين نقول قدر الله وما شاء فعل ، لا نقوله من باب السلبية ، ولكن ذلك يعني إدراكا منا أننا قد لا نمتلك كل الشروط والقدرات من أجل إحداث التغيير من حولنا ، وأنه حسبنا أن نبدل وسعنا كما في قوله تعالى:” فاتقوا الله ما استطعتم ” ،
والقدر معناه أن الكون والمجتمع يخضعان لنظام من الأسباب والمسببات بعضها قد تكون داخل نطاق تأثيرنا وبعضها خارجه ، وتأثيرنا في النطاق الثاني يكون بالعمل على إنتاج ما يسمح به وسعنا وطاقتنا من تلك الشروط أو الأسباب بينما سيظل بعضها خارج مكنتنا ، وهو ما يعني من جهة اجتهادا لاكتشاف سنن الإصلاح والتغيير، ومن جهة ثانية استجماع الشروط لإنتاج الأسباب والشروط اللازمة لإحداث تلك التغيرات ،بحيث لا نصطدم بالسنن التي لا تحابي أحدا ، ومن جهة ثانية تمكن من خلق حالة من السكينة النفسية والثقة في الله وفي موعوده كما في قوله تعالى : :” ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ۗ ومن يؤمن بالله يهد قلبه ۚ والله بكل شيء عليم “
و في قوله تعالى لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ “
فالتفسير بالإحالة على القدر معناه أن كل حدث له معنى ، ويستطيع العقل الذي يفكر بمنطق العلاقة الكونية الضرورية بين الأسباب والمسببات أن يمسك بذلك المعني
والأهم من ذلك أن يتصرف بناء على ذلك ، ويغالب الأقدار بالأقدار كما يقول علماء المسلمين .
وهكذا فإذا كان البعض يفهم من التعليل بالقدر الاستتسلام لجبرية عاجزة وتبريرية ، فإن الفهم الحقيقي لمعنى القدرة يفسح المجال للفاعلية الإنسانية العاملة على استجماع شروط دفع الأقدار بالأقدار .
أما بالنسبة للاصطدام بالسنن فإن الله تعالى جعل التكليف مرتبطا بالقدرة والاستطاعة كما في قوله تعالى : ” لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ” وعلمنا أن ندعو بأن نتوجه له بالدعاء ” ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به “
مستقر العادة والاصطدام بسنن العمران عند ابن خلدون
وفصل علماء الإسلام في شروط الأمر بالمعروف عن المنكر ومنها القدرة والاستطاعة ومراعاة المآل واعتبار سنن العمران كما جاء ذلك في مقدمة ابن خلدون حين قرر قائلا :
“ومن هذا الباب أحوال الثّوّار القائمين بتغيير المنكر من العامّة والفقهاء، فإنّ كثيرًا من المنتحلين للعبادة وسلوك طرق الدّين يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء، داعين إلى تغيير المنكر والنّهي عنه والأمر بالمعروف رجاء في الثّواب عليه من الله، فيكثر أتباعهم والمتشبتون بهم من الغوغاء والدّهماء، ويعرّضون أنفسهم في ذلك للمهالك وأكثرهم يهلكون في هذا السّبيل، مأزورين غير مأجورين.. لأنّ الله سبحانه لم يكتب ذلك عليهم، وإنّما أمر به حيث تكون القدرة عليه قال صلّى الله عليه وسلّم: «من رأى منكم منكرًا فليغيّره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه..» (صحيح مسلم:49)، وأحوال الملوك والدّول راسخة قويّة لا يزحزحها ويهدم بناءها إلّا المطالبة القويّة الّتي من ورائها عصبيّة القبائل والعشائر كما قدّمناه، وهكذا كان حال الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام في دعوتهم إلى الله بالعشائر والعصائب، وهم المؤيّدون من الله بالكون كلّه لو شاء، لكنّه إنّما أجرى الأمور على مستقرّ العادة والله حكيم عليم، فإذا ذهب أحد من النّاس هذا المذهب وكان فيه محقّا قصّر به الانفراد عن العصبيّة فطاح في هوّة الهلاك، وأمّا إن كان من المتلبّسين بذلك في طلب الرّئاسة فأجدر أن تعوقه العوائق وتنقطع به المهالك لأنّه أمر الله لا يتمّ إلّا برضاه وإعانته، والإخلاص له والنّصيحة للمسلمين ولا يشكّ في ذلك مسلم
خامسا : في الأفكار السياسية والثقافة السياسية
إن ما يميز الأفكار السياسية التي بلورها الحزب عبر تاريخه وأطروحاته السياسية ، أن أهمية تلك الأطروحات – فضلا أنها قد تضمنت جانبا منهجيا في قواعد الإصلاح عند حزب العدالة والتنمية بمضمون فكري واضح مما هو نتاج تطور متواصل – لا تمكن فقط في مضمونها الفكري أو السياسي ، بل بالدرجة الأولى في الثقافة المشتركة التي تبنيها عند المناضلين . ونقصد بانتقال المضمون المنهجي والفكري إلى قيم مشتركة أو إلى ” ثقافة ” تحكم سلوك المناضلين .
إن عددا من المراجعات لم تنتقل من المستوى الفكري النظري إلى مستوى التملك الجماعي ، أو من مستوى المعرفة إلى مستوى الثقافة أو من مستوى “النخبة العالمة ” إلى مستوى التملك الجماعي إلا من خلال آليات التبني المؤسسي الديمقراطي ،
وهو ما يبين أن الأفكار تأخذ قيمتها من خلال دورها الوظيفي وقدرته التعبوية ، وفي هذا تميزت رسالة الأنبياء أي في تحويلها إلى ثقافة وبرنامج تربوي يؤثر في السلوك ، ويحول الفكرة إلى تمثل سلوكي وإدراك جماعي . وقد صدق كارل ماركس حين قال : ” تتحول الأفكار إلى قوة ثورية حين تعتنقها الجماهير “
ولذلك لا يكفي أن ننتج تنظيرات فكرية ومقولات إيديولوجية ومفاهيم مجردة ، بل ينبغي أن تكون لنا القدرة لتحويلها إلى إدراك مشترك واستجابات جماعية للمواقف ، وهو ما يلتقى مع تعريف مالك بن نبي لمفهوم الثقافة .
وهذه مسألة أساسية في علاقة الفكر بالممارسة السياسية داخل أطر تنظيمية تسعى للتأثير في الواقع ، أي القدرة والمثابرة التي يحتاجها المفكر والمثقف ، بل وصاحب كل رأي جديد ومقاربة جدية ، من أجل الإقناع باجتهاده وتحويل الرأي الفردي إلى مشترك ثقافي . وهي عملية بناء طويلة وصبر ومصابرة ، كما أنها عملية بيداغوجية وتربوية لا يتوفق فيها إلا المفكرون والمثقفون العضويون كما حدث مثلا مع لينين وماو تسي توتغ وغيرهم ….