دداي بيبوط
في الأصول المعرفية لخطاب الحرية الجنسية ومقولة الإنسان الطبيعي
تأسست مقولة “الحرية الجنسية” و”جسدي ملكي” على بناء فكري معرفي تطور بشكل تراكمي في المجتمعات الغربية منذ أكثر من قرن ونصف، كانت خمسون عاما الأخيرة كفيلة باكتمال بنائه وتشكيله على الصورة التي هو عليها اليوم وفق خطاب ما بعد الحداثة المنفصل عن القيم والأخلاق، وكل معلم ديني أو ميتافيزيقي بشكل عام، والتي حشدت له أقليات كالمثليين ومجموعات الهبيزم ودعاة الحرية الجنسية ومجاميع اقتصادية ولوبيات أخرى داخل الدول الغربية الدعم السياسي والقانوني من أحزاب أقصى اليسار ويسار الوسط ومجموعات الضغط الاقتصادي والإعلامي، فتبدو كقوة اجتماعية وحقوقية متماسكة تتودد لها الأحزاب التقليدية والجديدة من أجل الحصول على أصواتها والدفاع عن وجودها، باعتبارها أقليات جديرة بالحماية داخل المجتمع الديموقراطي المتقدم.
يجمع الكثير من الباحثين (ماكس فيبر- عبد الوهاب المسيري…) أن عقد الستينيات كان المنعطف الأهم في بروز خطاب ما بعد الحداثة بسبب مخلفات الثورة التكنولوجية التي قربت المسافات وعولمت قضايا كبرى كالطاقة النووية والتلوث البيئي والإيدز والثورة الالكترونية واستغلال الموارد دون مواجهات عسكرية، وبروز حركات سياسية واجتماعية ذات مطالب غير مألوفة ما كان لها أن تظهر لولا الهجوم الكبير والمتعدد الأقطاب على منظومة الأخلاق المسيحية الذي أعقب مرحلة حسم الصراع السياسي والعسكري مع الكنيسة الكاثوليكية، وازدياد الثقة في المطلقات الوضعانية القادرة على اختراق كل بناء بالعقل التجريبي، فحلت محل الإله مطلقات معلمنة كالعقل الكلي وروح التطور والمجتمع والطبقة العاملة ومحل الآخرة حكم التاريخ ونهاية التاريخ، وأصبحت الحضارة الغربية تتجه رويدا رويدا نحو البدائية الجنينية التي نظر لها مفكروها (روسو، هوبس، لوك) واصفين مواطنها بالإنسان الطبيعي المفتقد لأي مرجعية دينية أو ميتافيزيقية يرتكز عليها، الشيء الذي يجعله بالضرورة معرضا لموجات كبيرة من القلق الميتافيزيقي الجامح، تقلل منه جزئيا جرعات من مراكز الإشباع الجنسي والرياضي أو الذات المركبة العنصرية ( النازية، أحزاب الشعب، ديكتاتورية الطبقة العاملة، الزعيم البطل، العبادات الوثنية…).
إن العودة للارتهان للجسد يشكل نزوعا جنينيا بدائيا يختزن كما قال المسيري قلقا حادا نتيجة الفردانية المطلقة المخيفة المفتقدة لأي معلم، والمنفصلة عن المشاعر الإنسانية التي راكمتها الأخلاق البشرية منذ المجتمعات الأولى والديانات السماوية وأواصر العيش الاجتماعي عبر التاريخ، وهو من المخلفات الحتمية لسيطرة الفلسفة التجريبية على العقل التحليلي الغربي على مدار أكثر من قرن ونصف، حاولت خلالها صياغة نماذج تصورية عن الإنسان والطبيعة وجدلية العلاقة بينهما (طوماس هوبز، جون لوك) دون استحضار لمنطق الدين والمثالية العقلانية، فهاجمت عن قصد أو بدونه “هيومانية” الإنسان التي كان مطلب حمايتها شعارا لفلسفة الأنوار بأكملها، واعتبرته حيوانا متمركزا حول حواسه لا يعرف غير التربص والافتراس واللذة والمنفعة، مثله مثل أقرانه الطبيعيين الآخرين من حيوانات وقوارض (الماركيز دوساد وفرويد وداروين)، وأن ذاته المتحضرة هي نفاق اجتماعي ثقافي صنعته منظومة الأخلاق الدينية والرأسمالية والأنظمة الاجتماعية المختلفة، وقد تكرس هذا التوجه خلال القرن العشرين مع البنيويين كليفي ستراوس والتوسير وفوكو ودريدا الذين هاجموا الاستنارة الإنسانية الهيومانية لصالح فكرة اعتبار الذات خرافة واعتماد مقولة الإنسان المتشيء والمتكيف، وقد تكرس هذا التوجه مع ماركوز الذي اعتبر أن إنسان ما بعد الحداثة ذو بعد واحد يمتح قيمه من ذاته التي يتمركز حولها، وأنه مجرد عقل أذاتي كما ذهبت إلى ذلك مدرسة فرانكفورت.
إن هذا الكم المعرفي الهائل الذي أنتج من كل هذه المجاميع الفلسفية والعلمية المسنودة من قطاعات اقتصادية وأوساط سياسية نيو ليبيرالية ويسارية متطرفة كان في جوهره هجوما على الأسرة الغربية المسيحية التي استبيحت باسم الثورة على الكنيسة وتعاليمها الرجعية، فتم القضاء على معالمها الأساسية وأهم وسائل بنائها (الزواج الشرعي) فبدأت تتآكل لصالح أشكال جنسية هلامية بديلة مهددة لمستقبل الكائن البشري (رجلان وامرأة وأطفال، امرأتان وأطفال متبنون من جنسيات عالم ثالثية في الغالب، رجلان، امرأة وحيوان…)، بالإضافة إلى سعار جنسي جامح تغذيه مراكز اللذة الهادمة للأخلاق والإيديولوجيات، وإشاعة قيم الاستهلاك التي يستخدمها المجتمع العلماني للضبط الاجتماعي، فبدلا من القمع الصريح يحضر الإغواء الذي تتم صناعته من قبل قطاع اللذة والترشيد، ويظهر المواطن الذي تتركز أحلامه في تحقيق انتصار جنسي أو فوز ناديه الرياضي لا وقت للتأمل بسبب محاصرة السلع والمعلوماتية المفرطة.
إن لجوء البعض اليوم في مغربنا إلى اقتراض بعض عناصر الجهاز المفاهيمي لهذه المنظومة الفكرية والإدعاء بكون مجتمعنا جاهزا لتعاليمها، وفي أولها المطالبة بإلغاء كل القوانين المجرمة للجنس خارج مؤسسة الزواج الشرعي الحامي للهوية الدينية والحضارية لبلادنا، والارتكاز في تلك المطالبة على مفاهيم الحق الطبيعي والحرية الشخصية واستغلال خطاب الديمقراطية التشاركية التي أضحت اليوم خيارا استراتيجيا للتجربة المغربية، إن كل هذا لا يمكنه النجاح ضدا على شرعيات وثوابت دينية وهوياتية وطنية شكلت ولا تزال أهم رافد للشخصية المغربية المسلمة التي لم تنجح الجيوش الجرارة في زعزعتها أو النيل منها أيام الحكم الاستعماري ولن يستطيع بحول الله وقوته وكلاء اليوم تحقيقه، إن التشريع مصدره الحاجة الحقيقية للمجتمع والدولة، وليس نزوات البعض ممن تعذر عليه المرور عبر بوابة الشرعية التمثيلية ليقفز من علٍ على حسابنا جميعا وضد إرادتنا كأغلبية وطنية مواطنة، متمسكة بهويتها الدينية والحضارية، ومنفتحة على مستجدات العصر بما ينسجم مع معتقداتها.
دداي بيبوط، دكتوراه في التاريخ الحديث والمعاصر، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، فاس.