صيرورة تآكل المحتوى: مراجعة فكرة القابلية للاستعمار عند مالك بن نبي

صيرورة تآكل المحتوى: مراجعة فكرة القابلية للاستعمار عند مالك بن نبي
الدكتور كمال القصير

قبل أن أخوض في تفسير قانون “صيرورة تآكل المحتوى” الذي تتعرض له المجموعات والدول، أود الإشارة إلى كونه مناقضا لطرح المفكر الكبير مالك بن نبي رحمه الله، حول فكرة ” القابلية للاستعمار”. وجوابي على هذا الأمر هو أن كل شعوب العالم لديها قابلية للاستعمار في لحظات معينة، لا المجتمعات العربية والإسلامية فقط.
إن تفسير حدوث الاستعمار بوجود القابلية له، لا تفسر ظاهرة الاستعمار بشكل صحيح. وأرى أن المجتمعات التي تتعرض للاستعمار في النهاية، تكون قد تعرضت لصيرورة طويلة من تآكل المحتوى الداخلي لديها. وللتمييز فإن القابلية للاستعمار ليست قانونا، بالمقابل فإن صيرورة تآكل المحتوى قانون يمكن ملاحظته بالاستقراء كما سأشرح.
إننا إذا أردنا أن نفسر سقوط المسلمين تحت الاستعمار الخارجي بسبب القابلية لديهم لهذا الأمر، لكان من الضرورة القول: إن المسلمين لم تتوقف لديهم قابلية الاستعمار منذ عشرة قرون، من بداية الحروب والحملات الصليبية، مرورا بالغزو المغولي الكبير والشاسع، وصولا إلى الاستعمار في القرن العشرين. وفي كثير من لحظات الغزو كان المسلمون في حالة رقي معرفي وتماسك اجتماعي. وربما وجدنا وضعا مختلفا، حيث إن دولة مثل مصر قبيل الاستعمار كانت على استعداد للنهضة، في عهد محمد علي باشا والخطوات الهائلة التي قام بها. لقد كان المسلمون يفقدون أحيانا سيادتهم العسكرية دون فقدان سيادتهم المعرفية، كما هو الحال عند مواجهة المغول.
التجديد والمراجعة
عندما يتوقف التجديد والمراجعة والاسترداد للمحتويات الضائعة، أو يقع من ناحية أخرى تجديد في الهياكل والواجهات فقط، تكون بذلك المجموعات والدول قد دخلت في صيرورة تآكل المحتوى. ويصبح المحتوى في تلك اللحظة جامدا، ويسود التقليد الذي يخدم الجمود ويمنع الفقه المتحرك. ويصبح التنميط والتقديس وغياب الاجتهاد والاختلاف حالة سائدة ضمن هذه الصيرورة. إن المحتوى الديني والثقافي والسياسي المتحرك لا يتآكل، فالحركة عنصر مانع للتآكل.
تتعرض دول عربية مختلفة إلى عملية تآكل اجتماعي وثقافي وسياسي. لقد بات تآكل محتوى الطبقة المتوسطة في المجتمعات العربية يمهد لعودة فكرة الطبقية، وانتعاشها مستقبلا من غير حاجة بالضرورة إلى إطار أيديولوجي، باعتبار أن فكرة التحليل الطبقي فكرة كامنة لا ميتة. حيث اختفت من المشهد التحليلي منذ عقود. إن دولا مثل مصر وإيران تمران بصيرورة تآكل المحتوى الاجتماعي والثقافي بشكل متسارع للغاية، دون حدوث عمليات استرداد للمحتويات المتآكلة تدريجيا.
يقول التاريخ بشأن واقعنا الحالي إن المجتمعات والدول تتجه بعد صيرورة طويلة من تآكل محتويات هياكلها السياسية ومضامينها الأيديولوجية وانخفاض كثافتها، إلى التمسك بالأشكال الخارجية المتبقية. وعندما تتعرض هياكل الدول والأيديولوجيات بعد ذلك إلى أبسط الهزّات، فإنها تنهار بسبب اختفاء المحتوى. إنها عملية شبيهة بما تمرّ به النجوم ضمن صيرورة طويلة من اشتداد الحرارة، واستهلاك وقودها الداخلي من الهيدروجين وغيره، قبل أن تنهار وتتحول إلى ثقب أسود.
لم يكن تآكل المحتوى الأيديولوجي الحالي في المنطقة العربية، الذي ظهرت معالمه بشكل أكبر بعد تراجع وبرود أيديولوجيا تنظيمات الإسلام السياسي، نتيجة هزائم تعرضوا لها فحسب، لكنه صيرورة تآكل بدأت بظهور موجة الدعاة الجدد، الذين سحبوا قدرا كبيرا من مضمون وكثافة أيديولوجيا الإسلاميين من الناحية الدعوية، مع حدوث درجة من الاكتفاء في التدين في صفوف المجتمعات، بسبب انتشار الثقافة الدينية التي يتيح وصولها الإعلام بسهولة دون وسائط، وصولا إلى التعقيدات التي ارتبطت بكيفية ممارستهم السلطة.
إن تآكل مشاريع الإصلاح وأدوات التجديد يضع العالم الإسلامي ضمن وضعية “صامت” التي نستخدمها في هواتفنا، في اللحظة التي نرغب فيها بالنوم أو تفادي الإزعاج. إن أي استعداد للدخول إلى المستقبل يحتاج أن يكون المسلمون حاليا بأقل تقدير في وضعية “اهتزاز” تمهد لما بعدها، وهي أن يكون صوته “مسموعا” في العالم.
الخلافة العثمانية: محمود الثاني
كان سقوط الدولة العثمانية يمثل الإعلان الأخير عن نهاية صيرورة تآكل محتوى الخلافة. لقد جعلت صيرورة التآكل تلك الدولة حسب وصف المؤرخ الأمريكي ديفيد فرومكين، مثل أطلال معبد قديم تبدو بعض أعمدته المتآكلة لأعين المارّين. يجهل الناس الكثير عن شخصية السلطان العثماني محمود الثاني (1785م –1839م)، الذي مثلت مرحلة حكمه نقطة تحول هائلة في مستقبل المحتوى العثماني. وبسبب ضعف الانتباه إلى أحداث هذه المرحلة، لم يفهم الكثير في المنطقة طبيعة التحولات لاحقا. وتم بالمقابل التركيز على شخصية مصطفى كمال أتاتورك، وتضخيم الإجراءات التي قام بها تجاه مكونات نظام الخلافة السابق، والهوية والخصوصيات الدينية والثقافية والاجتماعية. تزامنت مرحلة السلطان محمود الثاني مع صعود الحركة الوهابية في منطقة نجد. وفي حين كان محمود يتجه بقوة نحو تبني الثقافة الغربية، كان الوهابيون يقودون ردة فعل كبيرة في إحدى مناطق الفراغ، في الهامش السياسي للعالم الإسلامي نحو العودة إلى السلفية. لم يكن محمود الثاني يواجه الوهابية سياسيا وعسكريا فقط، بل كان يرى فيها خصما ثقافيا، وفي تعاليمها تراجعا إلى الخلف. كانت قوة الحركة الوهابية بحجم قوة موجة التغريب في المنطقة من إسطنبول إلى القاهرة.
كان محمود الثاني يقلّد ابن عمّه ومربيه سليم الثالث، الذي لم يكن له أولاد، فهو من علّمه العزف على الطنبور والنفخ في الناي. لكن السلطان محمودا كان أكثر راديكالية ممن سبقوه.
قاد السلطان محمود تغييرات عنيفة، وعينه الأخرى على أحوال مصر، حيث يقود محمد علي باشا حملة إصلاحات متقدمة، تعززها انتصارات عسكرية على الحركة الوهابية في الجزيرة العربية. لقد كشفت هزائم العثمانيين في مناطق الأطراف التابعة لهم، من دمشق وفلسطين ولبنان حتى الأناضول، عن حجم تآكل القوة السياسية والعسكرية الذي أصاب أطراف الدولة. حيث دخلت تلك المناطق حالة “التوحش” بتعبير ابن خلدون، بسبب سيطرة المجموعات والعصابات من الأعراب والبدو الرحّل، التي مارست عمليات السلب والنهب للقوافل.
رغم قرار الانفتاح الذي تبناه جزء أساسي من الطبقة العثمانية الحاكمة، إلا أن الرفض الاجتماعي استمر حاضرا. لقد كان الناس يرون في المسيحيين كفارا لا يمكن الثقة بهم، رغم كل ما استفادوا منهم على مستوى المنتجات الصناعية. لكن الثورة الفرنسية بكل ثقلها الفكري والثقافي قد أحدثت اختراقا في الوعي التركي كما في وعي غيره من الشعوب العربية. ورغم الرفض بداية والتوجس من الثورة الفرنسية بسبب موقفها من الدين، فقد بدأت أفكارها تخترق الحاجز بين الوعي الإسلامي والغربي. وقبل نهاية القرن الثامن عشر كانت السفارة الفرنسية في إستنبول قد أصدرت صحيفة باللغة الفرنسية.
أدت تدابير السلطان محمود الثاني إلى تسارع وتيرة تآكل الهوية القديمة للإمبراطورية العثمانية وهدمها. وتحوّل شيخ الإسلام إلى مجرّد موظف لاحقا، وعجز العلماء عن العودة إلى مكانتهم السابقة. أصبح السلطان محمود يرتدي الملابس الأوروبية، ويهجر قصر طب قابي ليسكن قصر دولما باختشى الذي يجري تنظيمه وفق النموذج الغربي. وينتقل في عربة ويقوم برحلات إلى الريف، ويتعلم الفرنسية، وينظم حفلات استقبال ومهرجانات، بمساعدة جيوزيبي دونيزيتي، شقيق المؤلف الموسيقي الإيطالي الشهير، ويدخل الموسيقى الغربية إلى البلاط، حيث يجري إحياء حفلات موسيقية وتقديم عروض باليه، كما يدخل الموسيقى الغربية إلى الجيش من خلال موسيقى عسكرية من نوع غربي مثلما ذكر المؤرخ روبرت مانتران.
كان شكل اللباس في الدولة العثمانية سابقا بالغ الأهمية والرمزية، ويشير إلى طبيعة انتماء الإنسان من الناحية الدينية والاجتماعية. ومثلت العمامة بأشكالها المتنوعة وعيا ثقافيا ودينيا عاما في المجتمع العثماني. وبالمقابل كان إقناع الجنود والناس لاحقا بارتداء القبعات الأوروبية يعني إلغاء التميز عن الكفار.
تطلّب ارتداء الطربوش بدل العمامة نقاشا وجدلا فقهيا واسعا، وقمعا للقوى المعارضة لتغيير شكل غطاء الرأس. لكن بعد حوالي قرن من الزمان أصبح الأمر عاديا، وجلبت الطرابيش الجديدة ذات الخيوط والهُدب المتدلية تغيرات اجتماعية، وكان تشابك خيوطها الجانبية بفعل الرياح أو الأمطار قد فرض ضرورة الاعتناء بشكلها باستمرار. وقد نتج عن ذلك بروز حرفة تهذيب ومشط خيوط الطرابيش، التي كان يمارسها كثير من شباب اليهود في ذلك الوقت.
شبكة العلاقات الاجتماعية التقليدية
تم تحطيم أجزاء أساسية من شبكة العلاقات الاجتماعية التقليدية، وإقامة مؤسسات أوروبية بديلا عنها تفتقر إلى العمق الاجتماعي، مما أدى إلى فشل تلك التغييرات. وفي الواقع كانت إستنبول ومصر محمد علي باشا تتنافسان أمام الأوروبيين أيهما أكثر ليبرالية من الآخر.
تآكل جزء كبير من الموروث العثماني القديم قبل مجيء أتاتورك، الذي رفض إحداث حلول وسطية بين ما تبقى من ثقافة القديم والجديد، وقرّر أن تركيا ستكون شكلا جديدا تماما. وبالطريقة نفسها لم تتمكن موجة ردّ الفعل القومية والوطنية العربية من تجاوز المشكل نفسه الذي واجهته الكمالية، عندما لم يولد الجديد متصالحا مع القديم. وبهذا الفشل تكون دول ما بعد الزمن العثماني، المتنكرة بحدة لهويتها ومكوناتها التاريخية، قد وضعت الأساس لبروز الاتجاهات الشمولية للفكرة الإسلامية لاحقا، طيلة القرنين العشرين والحادي والعشرين.

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.