أقل ما يقال حول تواطؤ الفرق البرلمانية أغلبية ومعارضة، باستثناء المجموعة النيابية للعدالة والتنمية، على تقديم مقترح قانون متعلق بالمجلس الوطني للصحافة، أنه فضيحة مكتملة الأوصاف وبسبق الإصرار والترصد، ونكوص مشين عن مكتسبات اللحظة السياسية التي أسس لها دستور 2011.
الفِرق الموقعة على المقترح اضطرت لسحبه، أو أوحي لها من طرف خفي لسحبه، وبطبيعة الحال وكما دبر أمر المقترح بليل وتفاجأ به المتابعون وربما حتى بعض الموقعين عليه ممن لا يملك قرار التوقيع من عدمه، فإن السحب سيمر بدون توضيح أو شرح، وقد تم تسريب الخبر المتعلق به، خارج قنوات الوضوح التي تقتضي أن يكون ذلك عبر بلاغ فيه ما يكفي ويشفي الغليل من المبررات والحجج المعقولة.
وحده العدالة والتنمية عبر مجموعته النيابية على صغر حجمها كما أرادته له أيادي العبث في استحقاق 8 شتنبر الذي ستلاحقه الشبهات إلى يوم الدين، وقف سدا منيعا أمام هذا العبث، ورفض التوقيع بشكل قطعي على هذا المقترح واصطف بوضوح وشجاعة، منذ أول وهلة، في خندق الدفاع على حرية التعبير واستقلالية الصحافة وعلى المقتضيات الدستورية ذات الصلة.
وأسست الأمانة العامة للحزب عبر ببيان واضح في الموضوع، موقفها الرافض للمقترح بكونه مخالفا للدستور، الذي أكد في الفصل 28 منه على تنظيم قطاع الصحافة بكيفية مستقلة وعلى أسس ديمقراطية، واعتبرت المقترح تراجعا ديمقراطيا مفضوحا عن قاعدة التنزيل الديمقراطي للدستور، ويشكل حالة استثناء مقارنة مع الهيئات المهنية المنظمة كالأطباء والصيادلة وأطباء الأسنان والمحامين والخبراء المحاسبين…، والتي تعتمد قوانينها ومنذ منتصف السبعينيات على مبدأ انتخاب ممثلي المهنة وليس انتدابهم أو تعيينهم، معتبرة أن جعل هيئة مهنية مستقلة معنية بتقنين الولوج إليها وضبط احترام أخلاقياتها على شاكلة باقي المؤسسات الدستورية المنصوص عليها حصريا، يشكل سابقة غير دستورية، كما أنه يحمل نزوعا واضحا نحو الحد من حرية التعبير والصحافة والرأي ضدا على مقتضيات الدستور.
إن هذه النازلة تثبت مرة أخرى لمن يحتاج إلى بيان، أن حزب العدالة والتنمية الذي راهنت إرادة النكوص على محوه من الخريطة، أنه عصي على المحو، أولا لأنه حزب حقيقي يملك قراره وينافح عن استقلاليته، والنازلةُ دامغةٌ في تأكيد هذا المعنى بشكل باذخ،
وثانيا لأن الحاجة إلى العدالة والتنمية قائمة وبإلحاح في ظل هذا التصحر والخواء الذي يعيشه المشهد السياسي، والذي تفاقم مع نخب 8 شتنبر،
وثالثا لأن الأحزاب الحقيقية هي تلك لا يضرها في شيء أن تبقى لوحدها عندما يتنكر الجميع للدستور، وحين ينظم هذا الجميع لركب النكوص والارتداد عن الديمقراطية ومستحقاتها وتحويل هيئة مهنية المفروض انها مستقلة وتختار ممثليها بديمقراطية إلى محضن للريع والتحكم.
إن ما يعطي للعمل السياسي المعنى ويضخ فيه الجدوى، هو أن تكون أداته، أي الأحزاب، قادرة على التميز وصنع الفارق في اللحظات الصعبة، وهذا لن يتحقق في ظل وجود أحزاب هي أشبه بلمحقات للإدارة ولبعض الجهات الخفية التي تعطي الإشارات والتعليمات من وراء الحجب وتتوارى إلى الخلف، بل يتحقق ذلك بأحزاب تملك قرارها واستقلاليتها، وتنسجم مع مبادئها واختياراتها مهما كلفها الأمر.
فلنتصور عدم وجود العدالة والتنمية في المشهد، كيف سيكون حال البلد ؟ وماذا لو لم ترفض مجموعته التوقيع ولم يقرع الحزب الجرس وينبه الى التراجعات والخروقات التي شابت المقترح ؟
كان سيمر الأمر بكل سهولة، وربما لن ينتبه له أحد خصوصا في ظل اللامبالاة والعزوف المستشري عند عموم المواطنين، والذي له في السلوك السياسي للفاعلين ما يبرره ويعمقه، ولكن وجود العدالة والتنمية رغم ما أصابه من “عبث مقص إرادة العابثين بالديمقراطية” في هذا البلد في مهزلة 8 شتنبر، كان وسيظل “ضمير” السياسة، الذي لا يخطئ في تشخيص علة المشهد واختيار التموقع الصحيح الذي يقتضيه التاريخ والمسؤولية السياسية أمام الله والوطن و الملك، وسيظل يشكل “عمق ” السياسة في هذا البلد، تلك السياسة التي تشبه المغاربة وتصطف إلى جنبهم في معاركهم الحقيقية وفي الموقع والخندق الصحيح.
منذ أن انتهى الأمر إلى من حملهم تسونامي 8 شتنبر، أصبح النكوص هو عنوان المرحلة، فكان أول قانون انفتحت له شهية النكوص وسحبته من البرلمان، هو قانون تجريم الإثراء غير المشروع، وتلته قوانين أخرى تتعلق بالحكامة، كما كان من أول أعمال رئيس الحكومة متابعة صحفية أمام القضاء بعد أن ضاق صدره من قلمها وكلماتها، بما يفيد أن القوم لهم عقدة من الكلمة ومن الصحافة ومن حرية التعبير.
أليس رئيس الحكومة هو من كان يتوعد المخالفين ومنتقديه ويهددهم بإعادة” التربية”حتى قبل أن تكون له سلطة؟ !!!
أليس وزير العدل في حكومة 8 شتنبر من فتح المتابعة في حق مرشح راسب في الامتحان المحاماة حسب ما أعلن عنه من نتائج، لمجرد أنه انتقد الوزير وتدبيره لهذا الملف؟ !!! وهو ذاته الذي يصر على احتقار كل مخالفيه تارة بنعتهم بكونهم “كمشة ساكنة في الفايسبوك” وتارة بتهديدهم بالمتابعات وأنه جاثم على صدورهم.
إننا أمام سلسلة من الوقائع كلها تفيد أن النكوص هو أسلوب عمل عند هذه الحكومة ونخبها، وأن صدرها يضيق من الكلمة الحرة والصحافة المستقلة، وأنها بالإضافة إلى الأساليب المعروفة التي استطاعت بها التحكم في المشهد الإعلامي وتنميطه في كورال واحد يسبح باسمها ويقتات من فتات موائدها، مستعدة لاستخدام المدخل القانوني للتحكم في الجسم الصحفي وفرض الوصاية عليه، وليذهب الدستور والديمقراطية إلى الجحيم.
رابط المشاركة :
شاهد أيضا