الطالب يكتب: سؤال اللغة في السينما المغربية
مصطفى الطالب، ناقد فني وسينمائي
تعد مسألة اللغة والهوية والقيم من الأسئلة الحارقة اليوم في ظل عولمة كاسحة وقاتلة لثقافات وقيم الشعوب خاصة تلك التي تسعى للحفاظ على خصوصياتها وكينونتها الثقافية والحضارية واللغوية. ولعل خطورة هذا الأمر تتجلى في الإبداع الأدبي والفني والسينمائي الذي يعد مرآة المجتمع، فهذا الابداع إما أن يكون حاملا للمشروع الثقافي لذلك المجتمع وإما أن يأتي بمشروع مخالفا له.
في هذا السياق العولمي تعيش اللغة العربية واللغة الأمازيغية تحديات كبرى ببلادنا في ظل هيمنة اللغات الأجنبية كالفرنسية والإنجليزية، ليس في المجال المعرفي فقط وإنما أيضا على المستوى الاجتماعي والاقتصادي وحتى السينمائي.
ذلك أن السينما المغربية هي الأخرى (كما الإعلام) لم تبقى بمعزل عن هذه التحديات الفكرية واللغوية التي تفرض نفسها اليوم.
ويمكن القول انه منذ مطلع الألفية الثالثة طرحت مسألة اللغة في الانتاج السينمائي المغربي بل حتى مسألة الهوية والقيم والاخلاق من قبيل: أي لغة وأي دارجة يمكن استعمالها في الإبدع السينمائي؟ أي قيم تروج السينما؟ هل يمكن الحكم على أعمال سينمائية بمعايير قيمية وغير فنية؟ أين يبدأ ما هو ديني/أخلاقي وأين ينتهي في علاقته بالسينما خصوصا والفن عموما؟
ويتزامن هذا مع تزايد اهتمام المغاربة بالإنتاج السينمائي المغربي ومقارنته بالإنتاجات السينمائية العربية والأجنبية، بل إن هذا الإنتاج أصبح محط السؤال تحت قبة البرلمان، كما ان مجلس الأعلى للحسابات أصبح يساؤل ويحاسب المسؤولين في المركز السينمائي المغربي عن المال العام الذي يصرف على الإنتاج السينمائي الوطني.
وحيث اننا نتحدث عن المسألة اللغوية في السينما المغربية فالملاحظات التالية تفرض نفسها:
أولا اللغة العربية مستثنية بتاتا من الأفلام المغربية إلا ما كان في بعض المشاهد الصغيرة التي تفرض نفسها إما في سياق قانوني أو ديني أو تاريخي، بل حتى الأفلام التاريخية التي تكاد تنعدم من المشهد السينمائي المغربي لا تستعمل فيها اللغة العربية مثل فيلم “زينب زهرة اغمات” لفريدة بورقية، وقس على ذلك المسلسلات التراثية والتاريخية المغربية، وهذا يطرح علامة استفهام على هذا الاختيار علما أن اللغة العربية لغة المغاربة ولغة الدستور. بل هناك بعض الأفلام التي يتم الاستهزاء فيها باللغة العربية كموقف منها، كما رأينا في بعض البرامج الكوميدية التلفزية، في وقت ظهرت فيع العديد من القنوات الأوروبية والامريكية باللغة العربية.
ثانيا: لازالت الأمازيغية لغة وثقافة تعرف نقصا في السينما المغربية رغم دسترتها ورغم دعم الفيلم الأمازيغي (على مستوى الإنتاج والمهرجانات) على حساب حضور اللغة الفرنسية بقوة، وإن كان المغرب يعرف اليوم تحول وجهته اللغوية نحو الإنجليزية. كما أن الأمازيغية بلهجاتها المتعددة غير حاضرة في الأفلام المغربية أو مهمشة مما يحرم المغاربة من معرفة تراثهم الأمازيغي المنسي على حساب ثقافات دخيلة على مجتمعهم.
ثالثا: إذا كان استعمال الدراجة في السينما المغربية أمرا طبيعيا ومفهموما لكونها مثل اللغة العربية لسان المغاربة وحديثهم اليومي، فإن هناك توجهين يغلب على الإنتاج السينمائي المغربي:
أ- توجه واع بأهمية اللغة في الإبداع اختار دارجة واقعية قريبة من الجمهور المغربي وثقافته ، تنهل أحيانا من العربية والامازيغية، دارحة غير صادمة لذوق المتفرج المغربي، فهي متناغمة مع قيمه وهويته المغربية وما يؤمن به في حياته الاجتماعية والروحية… وفي هذا الإطار سبق للمرحوم المخرج محمد إسماعيل أن صرح مرة انه يرفض إخراج أفلام باللغة العربية لأنه يرى أن هذه الأخيرة “تصلح للأفلام التاريخية أكثر منها للأفلام الاجتماعية التي تتناول مواضيع بسيطة وقريبة من هموم المواطن العادي، لأنها في تلك الحالة ستفتقد إلى الواقعية المطلوبة التي تعطيها الدارجة للعمل السينمائي”.
وهذا التوجه هو السائد في السينما المغربية لكونه ينطلق من وإلى الجمهور المغربي، وقائمة الأفلام طويلة للإستشهاد، نذكر منها: “ذاكرة معتقلة” لجيلالي فرحاتي و “فوق الدارالبيضاء الملائكة لا تحلق” لمحمد العسلي، و”الراكد” لياسمينة قصاري و”موسم لمشاوشة” لمحمد عهد بنسودة الذي وظف التراث المغربي في تقاليده ودارجته الجميلة، “كيليكيس دوار البوم” لعز العرب العلوي، “خنيفسة الرماد” لسناء عكرود، و”العبد” لعبد الإله الجواهري، “لو يطيحو الحيوط” لحكيم بلعباس وغيرها من الأفلام التي توظف الدارجة توظيفا متميزا يعكس قوة المضمون وقوة الحوار وعمق الشخصيات وتحفظ لها هويتها المغربية بغض النظر عن اختيارات المخرج الفنية ونظرته للحياة.
ب- التوجه الثاني اختار توجها اخرا غلب فيه دارجة صادمة لذوق المتفرج المغربي ومنافية لقيمه ولحياته اليومية، فباسم الواقعية أقحمت دارجة “زنقوية” و”سوقية” في الدرك الأسفل من الشارع، ذلك أن “لغة” الشارع مستويات، وهناك مستوى مقبول لدى المجتمع المغربي، فالمدينة الفاضلة غير موجودة على أرض الواقع، لكن مع ذلك هناك حدود اجتماعية متعارف عليها، وإذا كان دستور 2011 أولى أهمية لحرية الإبداع فإنه لم يتحدث عن الحرية المطلقة ولم يجعل المبدع أو السينمائي فوق الدستور والقانون والدين والمجتمع كما يعتقد البعض.
وفي هذا الإطار ظهرت بعض الأفلام بطروحات لغوية وثقافية هجينة ودخيلة على المجتمع المغربي حتى وإن كانت تتطرق لبعض المواضيع الاجتماعية الحساسة، مثل “على زاوا” والزين لي فيك” لنبيل عيوش، “شقوق” لهشام عيوش، “كازا نيكرا” لنورالدين الخماري، “اكس شمكار” لمحمود فريطس، ومؤخرا بعض الأفلام ذات التوجه الفرنكوفوني الإقصائي والتي حصلت على إنتاج اجنبي مثل “زنقة كونطاكت” لمخرجه الشاب إسماعيل العراقي وهو الفيلم الذي ضرب في الدين والقضية الوطنية قضية الصحراء المغربية، وفيلم “ملكات” لياسمين بنكيران الذي تضمن في بعض مشاهده دارجة منحطة صادمة للجمهور المغربي حتى ولو عالج الفيلم وضعية المراة المغربية.
فمثل هذه الأفلام تلعب على استقطاب جمهور الشباب الذي يهوي سماع كل ما هو ممنوع في المجتمع، فكما يقال ككل ممنوع مرغوب. لكن قيمة الفيلم الفنية تكمن في نجاحه على مستوى المبنة والمعنى، الجانب الفني والموضوعاتي الذي يعتمد على اللغة المستعملة.
ويمكن القول إن المشكل المتعلق بمثل هذه الأفلام هي أن سيناريوهاتها تكون مكتوبة باللغة الفرنسية والتي لا تراعي فيها لمستويات اللغة، لذلك تاتي الترجمة صادمة للجمهور. ويمكننا أن نتساءل: أي ثقافة يحملها هؤلاء المخرجون؟ وأي نظرة لهم للمجتمع المغربي؟
الأمر يفرض نقاشا وطنيا موسعا بين فعاليات المشهد السينمائي والفني ككل حتى نتجاوز هذه الظاهرة ونتجاوز التشنجات والنقاشات التي لا تخدم اللغة ولا الثقافة المغربية ولا المتفرج المغربي.
وفي الأخير، فإن سؤال اللغة يفرض نفسه على المشهد السينمائي المغربي الذي يعرف بعض التجاوزات اللغوية والفكرية والقيمية التي لا تمت بصلة إلى المجتمع المغربي بما يؤمن به. وكما قال المفكر المغربي المرحوم الدكتور المهدي المنجرة:”لا توجد أي دولة انطلقت في المجال التكنولوجي دون الاعتماد على اللغة الأم” قس على ذك الإبداع الفني لأنه يعد مسلمة من المسلمات الثقافية والحضارية.
“نقلا عن جريدة العلم”