الحسين زاهدي أستاذ التعليم العالي، خبير في السياسات التربوية العمومية
لقد كشف المجلس الأعلى للتربية والتكوين عن افتقار الحكومة لرؤية واضحة ودقيقة لإعمال إصلاح المنظومة التربوية. وعن تخبط وارتباك واضحين في خطوات وإجراءات ذلك الإعمال.
إن السلطات الحكومية المكلفة بالتربية والتكوين والتعليم العالي مُصرَّة بطريقة غير مفهومة على تعطيل اللجنة الوطنية لتتبع ومواكبة إصلاح منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي التي تعتبر أهم آليات الحكامة التي جاء بها القانون الإطار تحصينا واستدامة للإصلاح بِغضِّ النظر عن الأزمنة الحكومية المحدودة. ومع ذلك فقد توقفت اجتماعات هذه اللجنة مع نهاية ولاية الحكومة السابقة. وتوقف معها اعتماد لوحة القيادة الشاملة والمندمجة التي تتضمن النصوص التشريعية والإجراءات التنظيمية والدلائل والمواثيق المرجعية وآجال تنفيذها والجهات المسؤولة عن ذلك التفعيل.
لوحة قيادة تمت صياغتها والمصادقة عليها أثناء الاجتماع الثالث للجنة الوطنية المنعقد بتاريخ 6 يناير 2021 لتكون خارطة طريق واضحة بلائحة أهداف وقيم موجهة موحدة بمثابة رؤية جامعة. ولقد أُريدَ لها يومَها أن تشكل ضمانة أساس لتحصين الإصلاح، والحيلولة دون الدخول من جديد في دوامة الحلقة المفرغة للإصلاح وإصلاح الإصلاح.
ويبدو أن ما تقوم به الجهات المسؤولة اليوم كأنه ضرْبٌ من السعي لإحداث نوع من القطيعة والتجاوز لما تم إنجازه خلال الولاية الحكومية السابقة. ومهما كانت الدوافع السياسية لهذا السلوك التدبيري فإنها في آخر المطاف إنما تنزع عن ورش الإصلاح طابعه الإستراتيجي الذي منحه إياه القانون الإطار. وتُدخله من جديد في المسارات الضيقة للبرامج الحزبية والحكومية العابرة بعدما سَما به القانون الإطار عليها. وتحرمه من مقومات الاستدامة التي اكتسبها لأول مرة في تاريخ الإصلاحات التي عرفتها المدرسة المغربية منذ الاستقلال.
وإن تعطيل اللجنة الوطنية لتتبع ومواكبة اصلاح المنظومة أوقع السلطات الحكومية المكلفة بالتربية والتكوين والتعليم العالي في تناقضات ودفعها لارتكاب أخطاء جسيمة كشف عنها المجلس الأعلى في سياق إبداء رأيه بخصوص مشروع المرسوم المتعلق بتطبيقات الهندسة اللغوية في التعليم المدرسي والتكوين المهني والتعليم العالي.
لقد أوصى المجلس الأعلى الحكومة بضرورة إطلاق أشغال اللجنة الدائمة للمناهج والبرامج والتكوينات “قصد إعداد الأطر المرجعية والدلائل البيداغوجية التي من شأنها وضع الإطار الذي ستخضع له تطبيقات الهندسة اللغوية على المستوى البيداغوجي (مواصفات الملمح اللغوي للمتعلم (ة) تدقيق الكفايات المستهدفة التي تمكن من اكتساب ملكات الإبداع والتفكير النقدي وذلك حسب مراحل وأسلاك ومستويات التعليم المدرسي، تدقيق كيفية إعمال التناوب اللغوي، الجواز اللغوي…)؛ “. كما أثار باستغراب موضوع المذكرتين الوزاريتين الصادرتين عن وزارة التربية الوطنية والرياضة والتعليم الأولي بتاريخ 23 ماي 2023، اللتان تنص إحداهما على تعميم اللغة الإنجليزية بالتعليم الاعدادي ابتداء من الموسم الدراسي القادم.
وتتعلق الثانية بالتعميم التدريجي للغة الأمازيغية بالتعليم الابتدائي. وكلتاهما لها علاقة وارتباط بتطبيقات الهندسة اللغوية. وهي إثارة تتضمن نوعا من الاستنكار. إذ كيف للوزارة أن تشرع في تنزيل تطبيقات الهندسة اللغوية ومشروع المرسوم المتعلق بها لا يزال قيد الدراسة والمشاورة. ولم يستكمل بعد إجراءات صدوره واعتماده بصفة رسمية ومؤسسية؟
وعلى مستوى آخر كشف المجلس الأعلى نوعا آخر من العشوائية والافتقار إلى منهجية إصلاحية مؤسسة على ثقافة قانونية رصينة. فمن المعلوم في القانون بالضرورة احترام مبدأ التراتبية القانونية، وأن القاعدة القانونية العليا تسمو على الدنيا. في حين أن الحكومة قدمت للمجلس الأعلى دفعة واحدة مشروعَ مرسوم يتعلق بتطبيقات الهندسة اللغوية، ومشروع قانون التعليم المدرسي لإبداء الرأي. والصواب في هذه الحالة هو أن المرسوم لاحق بالقانون. فالأول يتأسس على الثاني ويفرِّع ويدقق ما جاء فيه على وجه الإجمال. وتفاديا لأي تنازع محتمل بين قاعدة قانونية دنيا وأخرى عليا وجب أن يصدر القانون أولا، ثم يأتي المرسوم فيما بعد مدقِّقاً ومفصِّلا. ومما لاحظه خبراء المجلس الأعلى بدهشة واستغراب أيضا أن مشروع القانون المذكور جاء خاليا من أية مضامين ذات صلة بمشروع المرسوم.
ولقد نبهنا قبل هذا في مناسبات عدة إلى أن ورش الإصلاح هذه المرة صار مؤطرا بقانون إطار يعتبر تعاقدا وطنيا استراتيجيا مُلزِماً للجميع. وأنه لأول مرة يتم التأكيد فيه على خاصيتين هامتين هما الطابع الاستراتيجي، وخاصية الاستدامة والاستمرار. وأن إصلاح المدرسة المغربية لم يعد يتحمل مزيدا من التأخير، كما لم يعد يُطيق إدخاله في إطار حسابات سياسوية ضيقة الأفق. إنه مِلك للمغاربة قاطبة. وزمنه يمتد أبعد من الأزمنة الحكومية. وعليه فإن المنطق الذي ينبغي أن يحكم عمل مختلف الحكومات المتعاقبة هو الاستمرارية والتراكم والتطوير، وليس التجاهل والقطيعة.