محمد عصام يكتب: بعد المسيرة الوطنية الحاشدة لرجال التعليم.. ماذا تنتظر الحكومة؟
شهدت شوارع الرباط اليوم الثلاثاء، طوفانا بشريا غير مسبوق، لنساء ورجال التعليم، الذي هبوا من كل المواقع على امتداد خريطة الوطن، ليعلنوا بكل وضوح وبكل قوة، أن رفض “النظام الأساسي”، هو موضوع إجماع لا يقبل المساومة، وأن هيئة التدريس بكل فئاتها ووضعياتها على قلب رجل واحد.
هذه المسيرة الحاشدة تأتي في إطار تصعيد تخوضه الشغيلة التعليمية، ويشمل إضرابا وطنيا على مدى ثلاثة أيام ابتداء من اليوم، ويأتي أيضا بعد أسبوع من لقاء أخنوش مع بعض النقابات، الذي لم يزد الملف إلا اشتعالا والوضع احتقانا، وبذلك تكون رسالة المسيرة المركزية بعد رسالة تجديد رفض النظام الأساسي، هي رفض أسلوب الالتفاف الذي تحاول الحكومة من خلاله امتصاص الغضب الذي يجتاح القطاع، بتوريطه في سلسلة من الحوارات اللامنتهية لمزيد من ربح الوقت وفرض الأمر الواقع بتواطؤ مع نقابات الحكومة التي ينطبق عليها المثل الدارج ” كتبات تاكل مع الذيب وتصبح تبكي مع السارح”.
هذا الاحتقان يؤكد أن الرهان على التقنوقراط لإدارة القطاعات الحساسة وذات الكلفة الاجتماعية والاقتصادية المرتفعة، رهان فاشل، فبنموسى الذي تمت صباغته قبيل تشكيل هذه الحكومة، باللون الأزرق، في سياق اتسم بتجريف سياسي مقصود، أبان عن ضعف شديد في إدارة الملفات الساخنة التي وجد نفسه في مواجهتها، والأخبار الواردة من مقر باب الرواح، تفيد أن الوزير سلَّم زمامه “لمسامير الميدة الصدئة” هناك، كما أنه فشل فشل ذريعا كما فشلت الحكومة بأكملها في ربح رهان التواصل، فلا شيء اليوم يبرر هذا الاستنكاف عن التواصل المتعدد الأبعاد وفي كل الاتجاهات في قطاع لا تزيده الأيام إلا اشتعالا واحتقانا.
بنموسى بماضية المليء بالندوب إن لم أقل بالجراح، جيء به في سياق كان الرهان فيه هو إبطال” السياسة” في هذا البلد وقتلها، ويوما بعد يوم يتضح أن هذا الرهان يمضي بالبلد نحو المجهول وبخطى متسارعة وثابتة للأسف، واليوم بالتحديد بعد خروج هذه الآلاف من الشغيلة التعليمية إلى الشارع بهذا الشكل غير مسبوق، وتواصل الإضرابات التي تفوق نسبة الاستجابة لها 96%، يتضح أن هذا الرهان قد وصل إلى الباب المسدود، وأن الاستثمار فيه لن يجلب إلا الخراب ومزيدا من الاحتقان.
مرة قال أخنوش إنه لا يتكلم لسبب بسيط” أنه يشتغل”، ومرة قال وهو يلمز السياسيين ناعتا إياهم بــــ “حرايفية السياسة”، وهو لا يدري أن جوهر السياسة ليس الكلام من أجل الكلام، ولكن السياسة هي القدرة على بناء الاختيارات والمواقف على أرضية مرجعية معلنة ومكشوفة، هي من يحدد مسارات اتخاذ القرار حركة وسكونا، إحجاما واقتحاما، وتحدد التموقعات، والقدرة بعد ذلك على بناء ترافع عنها دفاعا وإسنادا واشتباكا إن اقتضى مع وجهات النظر المخالفة.
السياسة تعني أننا يمكن توقع تموجات الفاعل السياسي انطلاقا من مرجعياته واستنادا إلى اختياراته المؤسِّسَة، فمن لا يملك مرجعية ولا تحكمه منطلقات، لن تسعفه “التكنوقراطية” ولا خبرات مكاتب الدراسات ولا أوهام “الكفاءات” في مجابهة القضايا الحساسة والاستراتيجية من حجم قضية التعليم، لأنه أصلا بدون اختيارات ويشتري الخبرة والاستشارة بمنطق السوق والعرض والطلب، وهو منطق مخالف لمنطق السياسة، لأن الاختيارات السياسية لها كلفتها التي لا يطيقها إلا من عجنته التجارب وصاغته النضالات، وكابَد الاشتغال في الساحات الممتدة للنضال اليومي مع الشعب وللشعب.
والآلاف المؤلفة التي صدحت حناجرها اليوم بشعارات قوية ضد الحكومة وسياساتها، تعيد ترتيب المشهد، بأن أولئك الذين كانوا يراهنون على أنهم باتوا يتحكمون في المشهد، وأنهم أبطلوا كل إرادات الممانعة والمقاومة داخل المجتمع وقواه الحية، أن هؤلاء واهمون.. وأن المجتمع رغم خذلان النقابات، وضعف الأحزاب، وتجريف السياسة، وتواري النخب الجادة والملتزمة إلى الخلف، قادر على صناعة أشكال جديدة من الممانعة، وعلى الدفاع على مصالحه، وعلى إدارة الصراع مع إرادات هدر مكتسباته الاجتماعية والاقتصادية، بكل الأشكال المتناسبة مع محاولات ضرب المكتسبات والحقوق المشروعة.
فما الذي تنتظره حكومة أخنوش بعد كل هذا؟
الخيارات أمامها قليلة، فهي إما أن تتحلى بالجرأة السياسية وتدعن لصوت العقل، وتراجع قرارها المتعلق بالنظام الأساسي وتسحبه في أفق إنضاجه بمقاربة تشاركية حقيقية، من غير إقصاء أو انتقاء، وتضع مصلحة المدرسة العمومية والمتمدرسين على رأس أولوياتها، وإنصاف الشغيلة التعليمية، أو عليها أن تحزم حقائبها وتغادر، بعد أن فشلت فشلا ذريعا في ملف كانت تروج أنه من أولى أولوياتها.
غير هذين الخيارين فإن محاولات الالتفاف وهدر الزمن، لن تزيد الوضع إلا اشتعالا !!!