الشوباني يكتب: طوفان الأقصى: أسباب النزال.. حتمية المآل.. وواجبات الحال.. !3/4
في المآلات الحتمية للطوفان (3/4)
شكل هجوم المقاومة الفلسطينية على جيش الاحتلال الصهيوني يوم 7 أكتوبر 2023 لحظة انفجار طوفاني فاصل وغير مسبوق في قوة صَعْقِه، وفي مَدَيات تأثيره المزلزل على مجمل ما كانت عليه الأوضاع فلسطينيا، وصهيونيا، وعربيا، وعالميا. وأيّا ما تكن تقديرات الأوضاع لما بعد طوفان 7 أكتوبر، فإنها لن تخرج عن الوسائل والأهداف المرتبطة تاريخيا بتفجير كافة حروب التحرير: النضال والقتالْ..من أجل الحرية والاستقلالْ.. !
لذلك وجب القول إن طوفان الأقصى سيكون له ما بعده، باحتمالات ثلاثة لا رابع لها:
• احتمال انتصار المقاومة: سيتحقق الانتصار حصريا بانهيار يقينيات الحلم الصهيوني-الديني،المراهن على ابتلاع كامل فلسطين. أي سقوط أساطير بناء دولة خالصة لليهود يؤمِّنها الردع الذي توفره قوة التفوق العسكري؛ وهو ما سيؤدي حتما لبداية العد التنازلي لعصر انكسار الاحتلال، وصعود ديناميات موازين قوى إقليمية جديدة تقودها روح المقاومة المنتصرة، نحو أفق التلاشي الوجودي لعناصر قوة الكيان؛طبعا، سيحدث ذلك نتيجة سيرورة صراعية عنيفة تغذيها عوامل متعددة، أهمها: (أولا) تشكل مناخ نفسي وفكري عربي وإسلامي وعالمي مشحون ومدجج بمشاعر الكراهية ضد الكيان الصهيوني ومستوطنيه، باعتباره نظام “أبارتايد” متورط في جرائم حرب وإبادة وتهجير بقوة القانون الدولي الإنساني؛ (ثانيا)تشكل مناخ حقوقي عالمي مساعد وداعم لملاحقة الدولة الصهيونية وقادتها السياسيين والعسكريين بجرائم الحرب والإبادة والتهجير؛(ثالثا)تفجر صراعات الجبهة الداخلية بعد استحكام حلقات الهزيمة وانقلاب المكر السياسي ضد صُنّاعه،الأمر الذي سيعمق تناقضات وشروخ المجتمع الصهيوني التي خلَّفها صراع إصلاح القضاء وإضعاف سلطة المحكمة الدستورية؛ (رابعا)تصاعد وتيرة الهجرة المضادة بحثا عن أمن بات مفقودا في “أرض الميعاد”، وتراجع مؤشرات الاقتصاد والرفاه الاجتماعي كنتيجة حتمية لهذا اللايقين الأمني؛ (خامسا) تبلور إرادة حقوقية وسياسية عالمية جديدة داعمة ومنحازة للحق الفلسطيني،اقتناعا بصوابية نهج مقاومة الاحتلال، لا بنهج مسالمته التي أوصلت الجميع للطريق المسدود؛ (سادسا)تحول الكيان الصهيوني إلى عبء مالي وأمني وعسكري وأخلاقي على كاهل الغرب بسبب التحولات العميقة الجارية في وعي شعوبه، رفضا لاستمرار تمويل الاحتلال بأموال دافعي الضرائب، ومطالبة بإنزال العقاب الانتخابي على السياسيين الداعمين لكيان عنصري ومجرم حرب؛ (سابعا) تشكُّل عوامل نهضة تحررية سياسية في العالمين العربي والإسلامي، سيعبِّد لها الطريق نجاح المقاومة الفلسطينية في كسر أخطر حاجز وجودي مادي ومعنوي عوَّق هذه النهضة منذ سقوط الخلافة الإسلامية سنة 1923.
• احتمال انكسار المقاومة: سينتج عنه حتما انهيار يقينيات الحلم التحرري الفلسطيني المقاوم منذ أكثر من 75 سنة، وبداية عهد شتات جديد ونكبة جديدة، وستتحول مأساة الشعب الفلسطيني إلى “شعب هنود حمر جديد”؛ وهو ما يعني (أولا)، بداية العد التنازلي لانطلاق دورة جديدة لعصر صهيوني إمبريالي غربي أكثر فجورا وعُلوّا في استضعاف دول وحكومات وشعوب المنطقة والعالم؛ (ثانيا)، تنفيذ مشروع “سايكس-بيكو” جديد تحت عنوان “مشروع بايدن-نتنياهو”، يقود إلى مزيد من تفكيك المفكَّك وتجزيء المجزَّأ، من خلال الاستفراد بكل الحاضنات الشعبية والرسمية وإخضاعها لاستكبار عاتي يتوسل لتحقيق غاياته باصطناع الحروب الإقليمية، وبدعم الانفصال، وتأجيج الفتن داخل المجتمعات العربية على أسس طائفية وعرقية ومصالحية؛ (ثالثا) تنفيذ المخططات الامبريالية المتناغمة مع الرؤية الصهيونية الدينية الأمريكية، لتكريس مزيد من الاستنزاف لثروات المنطقة، والتفقير لشعوبها للإبقاء عليها في ذيل مؤشرات التنمية البشرية والسياسية والاقتصادية؛ (رابعا) تتويج عصر العلو الاستكباري المادي بإعادة رسم الخرائط والحدود لجميع دول العالم العربي والإسلامي، وإعادة تشكيل كيانات جديدة تمليها إرادة التسخير والتحكم في ثروات ومصير الشعوب العربية والإسلامية؛ (خامسا) تتويج عصر العلو الاستكباري المعنوي بمسخ وعي وثقافة الأجيال الصاعدة، ومحو ذاكرتها بمناهج تعليم وإعلام وتثقيف تستجيب لأهداف المنظور الصهيوني – المسيحي – الغربي الاستعماري المتغلِّب.
• احتمال الضبط الدولي للوضع في حالة لا غالب ولا مغلوب: وذلك بتحرك القوى الإقليمية والدولية المتوجسة من مخاطر عالمية قد يقود إليها تحقق أحد الاحتمالين السابقين، والعمل على فرض هدنة تقود لوقف إطلاق النار بقوة قرارات مجلس الأمن، والعودة بالمنطقة إلى إحداثيات القرارات الدولية الكلاسيكية التي اعتادت “إسرائيل” والولايات المتحدة الأمريكية الدوس عليها قبل أن يجف مدادها. أي إحياء لغة مشاريع السلام في إطار حل الدولتين، وطي صفحة هذه الجولة من الصراع بوضعية لا منتصر ولا منهزم؛ مع ما يقتضيه هذا الاحتمال من مفاوضات ومؤتمرات إقليمية ودولية وقرارات أممية ستقود محصلتها حتما إلى ما به يشهد العالم مجددا على ضمانات أقوى من كافة الأطراف، بعدم ممارسة لعبة ازدراء حل الدولتين، والعمل الجدي – داخل آجال صارمة – على تمكين الشعب الفلسطيني من حق إقامة دولته المستقلة؛ أي تأسيس دولة فلسطينية كاملة السيادة وبدون مستوطنات، مع ما سيصاحب ذلك من إطلاق مشاريع لإعمار ما دمرته الحرب في غزة، وتغطية جرائم الحرب والإبادة وطي صفحتها الجنائية بإغداق المساعدات العربية والغربية السخية على الشعب الفلسطيني المنكوب في كل تفاصيل حياته ومعيشته، مع حرص آلة التسويق الدبلوماسي على جعل الدول المتورطة في الشراكة المادية واللاأخلاقية في جرائم الحرب والإبادة، على رأس قائمة الدول المانحة !.
ولأننا موقنون عقلا ودينا، وبخبرة التاريخ،من استحالة تحقق الاحتمالين الثاني والثالث، للاعتبارات الموضوعية التالية:
إسرائيليا، لاستحالة تنازل تيار الصهيونية الفاشية المهيمن سياسيا في “إسرائيل” عن نزوعه الاستيطاني المؤسس على الأساطير الدينية، والتسليم المُرُّ بدفن حلم الدولة اليهودية الخالصة على كامل تراب فلسطين، والقبول بتهجير المستوطنين، والاعتراف بدولة فلسطينية كاملة السيادة على ما نسبته 22% من أرض فلسطين التاريخية، أي على حدود 1967؛ وأيضا لاستحالة تنازل المسيحية الصهيونية في الولايات الأمريكية المتحدة عن وظيفة قاعدتها العسكرية المتقدمة في قلب منطقة حساسة في معادلات صراع قيادة العالم، بسبب إرادتين متناقضتين تتعايشان داخل عقل قادتها في البيت الأبيض والكونغرس والبنتاغون: إرادة التخطيط الاستراتيجي الفائق للسيطرة على آبار النفط والغاز وحصار الصين وروسيا وإيران، والاستفراد بقيادة العالم، من جهة؛ وإرادةالدفاع عن إسرائيل باعتباره “واجباً دينياً” يمليه السير في الطريق الطويل نحو المعركة النهائية (هَرْمَجِدّون) التي تسبق عودة المسيح المخلِّص (سفر الرؤيا:16) وفناء العالم، من جهة أخرى؛وتلك عقيدة مسيحية – يهودية مشتركة تؤمن بمجيء يوم يحدث فيه الصدام العظيم بين قوى الخير والشر–بأعداد تقدرها الأساطير الدينية بمائتي مليون جندي !- على أرض فلسطين في “وادي مجدو”.. !
إسلاميا، لاستحالة ربط الشعب الفلسطيني ومقاومته الإسلامية لعدالة قضية تحرير فلسطين والمسجد الأقصى بوجود أو فناء حماس أو القضاء على أي مقاومة تأتي بعدها، وفي أي مرحلة من مراحل هذا الصراع الوجودي ضد الاحتلال؛ نظرا لإيمانها بالوعد القرآني المعارض للنبوءات التوراتية: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا) (1)؛ وتصديقا بنبوءة رسول الله ﷺفي وصف الفئة التي سيؤول إليها شرف تحرير بيت المقدس من الاحتلال: “لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لَأْواءٍ، حتى يأتيهم أمر الله. وهم كذلك”، قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: “ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس) (2)؛ وهي نبوءة تعني، من جهة المعتقد الديني الإسلامي الذي يؤسس ويوجه فعل المقاومة الإسلامية، استمرار حالة المواجهة على أسس صلبة وصحيحة، واتصاف حمَلة لواء القضية العادلة بقهرهم لعدوهم، أي باستحالة محوهم وإزالتهم رغم ما قد يصيبهم من البلاء؛ ومن جهة ثانية، استحالة قبول الطرف المعتدي (عدوِّهم) بحل سلمي ينهي الصراع ويقيم التعايش في دولتين أو دولة واحدة.
بناء عليه، فإن انتصار المقاومة الفلسطينية في هذه الجولة من الصراع، وانكسار الاستعمار الصهيوني الاستيطاني انكسارا مقدرا بحسب ما تتيحه موازين القوة الظرفية، حتمية صراعية لا تخرج فقط عن القانون الأزلي لقهر الحق المطلق (تحرير الأرض والإنسان والمقدسات)، للباطل المطلق (احتلالها كلها)؛ بل يمليها أيضا تضافر عوامل تاريخية وعسكرية وأخلاقية، ودينية وعالمية، تشكل مجتمعة عناصر مساعدة لفهم وتفسير منطق اشتغال القانون الأزلي(بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق/ الأنبياء 18). (في اللغة؛القَذْفُ: رَمْيُ جِسْمٍ عَلى جِسْمٍ. واسْتُعِيرَ هُنا لِأنَّ ذَلِكَ مِثْلَ رَمْيِ الجِسْمِ المُبْطَلِ بِشَيْءٍ يَأْتِي عَلَيْهِ لِيُتْلِفَهُ أوْ يُشَتِّتَهُ أو يستأصله؛ والدَّمْغُ: كَسْرُ الجِسْمِ الصَّلْبِ الأجْوَفِ؛الزّاهِقُ: المُنْفَلِتُ مِن مَوْضِعِهِ والهالِكُ). وفيما يلي بيان ذلك:
• تاريخيا، لأنه لم يحصل أن انكسرت مقاومة تكافح من أجل قضية عادلة، كقضية الاستقلال والحرية،خاصة عندما تكون مستندة إلى حاضنة شعبية عنيدة ومتجذرة في ترابها ومرتبطة مصيريا بوجود المقاومة (الشعب الفلسطيني)؛ ولها حاضنة قومية مرتبطة عضويا ووجوديا بالحاضنة الشعبية المباشرة (الأمة العربية)؛ ومدعومة معنويا بحاضنة أممية دينية أوسع (الأمة الإسلامية)كونها مرتبطة دينيا وثقافيا بمقدسات غير قابلة للنسيان أو التفريط (المسجد الأقصى)؛ وأخيرا لأن لها حاضنة عالمية يجسدها ضمير كل أحرار العالم في تضامنهم الإنساني مع مظلمة شعب يواجه بشكل ملحمي وأسطوري احتلالا استيطانيا عنصريا بشعا في دمويته وإجرامه؛ وهي حالة تضامنية غير مسبوقة يعكسها طوفان المظاهرات ومبادرات النصرة التي عمت الكوكب للتعبير عن إدانة جرائم الحرب والإبادة في غزة والمطالبة بوقفها الفوري، والتأكيد على العلاقة السببية بين انفجار الطوفان وواقع الاحتلال ومظالمه، وعلى حق الشعب الفلسطيني في مقاومته لتحرير وطنه وإقامة دولته.
• عسكريا، لأن الضربة المباغتة التي وجهتها المقاومة الفلسطينية لجيش الاحتلال الصهيوني يوم 7 أكتوبر ضربةٌ محطِّمة معنويا، كونها سفَّهت عقيدته العسكرية القائمة على الردع والحسم، وأنهت سرديات عقود التبشير بالعيش الآمن للمستوطنين الوافدين من أوطان أصلية أكثر أمنا؛ وأيضا لأنها أكدت دخول هذا الصراع المزمن – منذ قيام دولة الكيان سنة 1948 – مرحلة انقلاب جذري لكل معادلاته. فقد تأكد من صعقة طوفان الأقصى تفوُّق عبقرية العقل الفلسطيني وإرادته الصلبة بالشباب المتجدد لعنفوان المقاومة العصامية، على عبقرية العقل الصهيوني وإرادته المترهلة بالشيخوخة المبكرة للاحتلال رغم الاحتضان المالي والعسكري الغربي. وقد تكرست هذه الصورة بشكل أكبر من خلال مشاهد الهرولة الغربية لنجدة الكيان الصهيوني عسكريا ومعنويا وإعلاميا بعد 7 أكتوبر، وهو ما ثبَّت في الأذهان واقع هشاشته البنيوية، وعجزه الذاتي عن مواجهة التهديدات المتربصة به، بما يتناسب مع الصورة المصطنعة لِوَهْمِ أقوى جيش في المنطقة.
• أخلاقيا، لأن وقائع طوفان الأقصى ورد الفعل الصهيوني عليه، أكد التفوق الأخلاقي للمقاومة الفلسطينية بشكل كاسح. فقد تابع العالم بالصوت والصورة حجم الهوة الشاسعة والسحيقة بين مقاومة يستأذن أحد أفرادها ليأكل موزة في بيت مستوطنة صهيونية لم يصبها منه أذى، أو ملاعبة مقاوم آخر أطفالا يهودا ليهدِّئ من روعهم، أو معاملة المقاومين لمستوطِناتٍ أسيراتٍ باحترام تام لكرامتهن الإنسانية. في المقابل، ما زال العالم يتابع مشاهد التوحش والبربرية التي يوثقها القتل النازي للمدنيين، والتدمير الهمجي للمستشفيات والمساجد والكنائس والمدارس وقصف سيارات الإسعاف، في مشاهد مخزية لا تصدر إلا عن عصابة تمارس جرائم إرهاب ممنهج في حق الأبرياء، وتكشف عن الأصل اللاأخلاقي للاحتلال، وتؤكد بأن “إسرائيل” شذوذ لاأخلاقي كوني في السلم كما في الحرب.كما أن هذه الممارسات تفضح حجم الرعب الذي يتلبَّس بمعنويات الغزاة وعجزهم عن مواجهة المقاومين وفق أخلاق الحرب، وفي احترام صارم لقواعد القانون الدولي الإنساني؛ لأجل ذلك فإن الاعتبار الأخلاقي حاسم في شأن مآلات المعارك أيا كانت طبيعتها، لأن الفجور الأخلاقي الذي يجسده قتل الأطفال والنساء والشيوخ والمرضى، دليل فشل واضطراب وفقدان للثقة في الانتصار؛ أما التزام الأعراف الإنسانية في الحرب كما في معاملة المدنيين والأسرى، فدليل على رسوخ أقدام المقاومة وثقتها في تحقيق الانتصار، مهما غلت كلفة دفع الباطل المهزوم حتما بفجوره الذي سيقوده للهزائم حتى موعد الوعد بالزوال.
• دينيا، لأن العالم مهما حاول طمس البعد الديني الجوهري لهذا الصراع، فإن طوفان الأقصى أعاد ترتيب الأوراق ترتيبا صحيحا فَرضتْهُ الإرادة الصلبة والمُقتحمة للمقاومة. لقد عرَّى الطوفان واقع المكر والانحياز غير الأخلاقي لمسارات الإجهاز على القضية لصالح منظور أحادي صهيوني بِلَبوسٍ توراتي خالص. بمعنى أن طوفان الأقصى أجهز دفعة واحدة على مسلسل تسويات كامب ديفيد (1978) وأوسلو (1993) ووادي عربة (1994) واتفاقيات أبراهام التطبيعية (2020-2021)، الخاضعة جميعها للإملاءات والضغوط الأمريكية المتحيزة والترهيبية المتواطئة مع رؤية صهيونية مصممة على ابتلاع فلسطين وإبادة الشعب الفلسطيني؛ وهو ما أكده صراحة المحلل العسكري بصحيفة”هآرتس”الإسرائيلية عاموس هرئيل بقوله:“إن الغاية من اتفاقيات إبراهام والتطبيع (..) هو إثبات عدم احتياج إسرائيل لإنهاء الصراع وللسلام مع الفلسطينيين من أجل تحسين علاقاتها مع دول عربية وإسلامية”. لقد أجهز الطوفان على مجمل تسويات هذا المسار، وأثبت استحالة إقبار المنظور الإسلامي للصراع، واستحالة شطب القضية الفلسطينية كقضية تحرر عادلة من هندسات السلم والأمن بالمنطقة، واستحالة تحويل التطبيع الرسمي إلى تطبيع شعبي مناهض لوجدان الأمة؛ لأن المسجد الأقصى وحق الشعب الفلسطيني في الاستقلال متجذرَين في صلب الصراع وعصِيَّيْنِ على المحو، ولأنهما يشكلان بوصلة المواجهة ونقطة الارتكاز والتعبئة التحررية الدائمة؛ ولأنهما أيضا يمثلان الرمز والحق المُلهِمين تاريخا وحاضرا ومستقبلا لكل المقاومات الشعبية والقومية والدينية والإنسانية التي ستنتهي حتما بإزالة الاحتلال وتفكيك آخر نظام تمييز عنصري عرفته البشرية.
• كونيا، لأن الطوفان كشف تفاصيل ذات خطورة بالغة متعلقة ببعض المخططات التي وُضعت سِرّا للتخلص من القضية الفلسطينية، والتي يبدو أن المقاومة كانت على علم تفصيلي بمجرياتها، وأنها كانت موقنة بدُنُوِّ لحظة الإجهاز على غزة لإفراغها بشريا نحو صحراء سيناء. يتعلق الأمر بإحياء مشروع “قناة بن غوريون” القديم، والذي خَطط التنسيق الصهيو -أمريكي لتنفيذه بتمويل يتجاوز 6 مليار دولار بهدف ربط ميناء “إيلات” على البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط مرورا بقطاع غزة. خلفية المشروع تقوم على التصدي لمشروع “الحزام والطريق” الصيني، من جهة؛ وتهميش دور قناة السويس لإضعاف مصر، من جهة ثانية؛أي من خلال إنجاز “طريق حرير بديل” يمتد من الهند نحو أوروبا مرورا بدول الخليج نحو قناة غزة/بن غوريون. خطورة هذا المشروع الجيوستراتيجي الأمريكي يعكسها تقاطعه مع المصلحة الوجودية للكيان الصهيوني الحريص على ربط تنفيذ المشروع بالتخلص من المقاومة في غزة، وتهجير سكانها، وإعادة السيطرة عليها وإدارتها كما هو حال الضفة الغربية، وبالتالي طي ملف القضية الفلسطينية للأبد. فقد عرض نتنياهو علنيا أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الـ78 خريطة الشرق الأوسط الجديد بدون دولة فلسطين، وقال في كلمته مزهوا بقرب اكتمال الحلم الصهيوني: “إن الفلسطينيين يمثلون 2% فقط من العالم العربي وعندما يرون أن معظم العالم العربي يتعايش مع دولة إسرائيل، سيتخلون عن الحلم الوهمي بتدمير إسرائيل (..) أعتقد أننا على أعتاب تحقيق إنجاز أكبر ، وهو السلام التاريخي بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية (..) هذا السلام سيشجع دولا عربية أخرى على تطبيع علاقاتها مع إسرائيل ويعزز آفاق تحقيق السلام مع الفلسطينيين، ويشجع مزيدا من التصالح الأوسع بين اليهودية والإسلام، والقدس ومكة، وبين أبناء إسحق وأبناء إسماعيل”. (..) وهذا السلام سيخلق شرق أوسط جديدا”.
بكلمة، إن طوفان الأقصى تم توقيته من طرف المقاومة لإطلاق سيرورة صراعية غير تقليدية تنسف مخططات إعدام فلسطين، وتجعل مطلب التحرير مندرجا ضمن منظور أوسع لصراع موازين القوى بين أمريكا ومن خلفها، والصين وروسيا ومن معهما؛ وهذا الصراع سيتجه حتما نحو إعادة بناء نظام إقليمي شرق أوسطي جديد بدون احتلال، وبدولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة؛ وهو أمر قد يتوقف على بناء نظام عالمي جديد، لا تكون فيه الغلبة للغرب كما كان الأمر منذ ثلاثة قرون. ………….(يتبع (4/4): في واجب الحال الفردي والجماعي).
[1]سورة الإسراء، الآية 7.
[2]قال عبد الله بن الإمام أحمد: وجدت بخط أبي، ثم روى بسنده إلى أبي أمامة قال: قال صلى الله عليه وسلم: “لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لَأْواءٍ، حتى يأتيهم أمر الله. وهم كذلك”، قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: “ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس”، وأخرجه أيضا الطبراني . قال الهيثمي في المجمع ورجاله ثقات.