فاضلي يكتب: التعصيب في الارث الإسلامي والرأسمالية
علي فاضلي
في سياق النقاش الدائر حول تعديل مدونة الأسرة في المغرب، تحظى مسألة التعصيب في منظومة الإرث الإسلامي بتركيز كبير من القوى العلمانوية والحداثوية المطالبة بحذف التعصيب من دائرة الإرث، باعتباره يشكل حيفا وظلما اجتماعيا بحق النساء كما تزعم تلك القوى، مستحضرة بعض الأمثلة المجتمعية لتبرير دفوعاتها في هذا الباب.
دون الخوض في تفاصيل مسألة التعصيب ضمن منظومة الإرث الإسلامي، نورد قبل النقاش بعض الأمثلة:
-توفي رجل وترك زوجة وطفلين، وقد كان الرجل فقيرا يعيش وسط إخوته ولم يترك شيئا، وبعد وفاته استمر اخوته في الانفاق على الزوجة والطفلين كما ينفقون على أسرهم، لدرجة رفض الزوجة الانتقال للعيش مع أسرتها.
-لرجل أرمل عدة بنات، وقد انتقلن للعيش رفقة ازواجهن خارج المغرب، وقد عاش الرجل الأرمل بقية عمره مع أخته التي اعتنت به حتى وفاته في غياب البنات، فحذف التعصيب هنا سيحرم أخته التي تكلفت به من الإرث في حين ستحصل بناته اللائي تركنه على كامل الإرث.
-عاش رجل أرمل بقية حياته وسط إخوانه الذين اعتنوا به وتكلفوا بجميع متطلباته الحياتية من غذاء ودواء في حين تخلت أو ابتعدت عنه ابنته الوحيدة إما اختيارا أو اضطرارا لظروف الحياة.
هذه بعض من الكثير من الأمثلة الحقيقية بمئات الآلاف من الحالات في المجتمعات الإسلامية، بحيث تجد الأخ يتكلف بالإنفاق على إخوته وأبنائهم، والعم ينفق على أبناء أخيه ويتولى رعايتهم لعوز أخيه أو لوفاته.
فما الذي يدفع الأخ والعم للعناية بالأخ وأبناء الأخ؟ إنه الواجب الشرعي الذي يفرضه الإسلام على ذوي القربى، وليس من باب الإحسان فقط.
إن فصل التعصيب عن المنظومة الكلية التي ينتمي إليها وعدم نقاشه ضمن هذه المنظومة هو فصل مشوه، وفصل تحريفي يشكل مدخل خطيرا نحو هدم كامل المنظومة، فتبرير المطالبة بإلغاء التعصيب اليوم تحت ستار رفع الظلم والحيف الاجتماعيين ضد المرأة هو الدفع الذي يقدم للمطالبة بمراجعة كامل المنظومة ومنها الاختلاف في الأنصبة بين الابن والبنت (للذكر مثل حظ الأنثيين). كما انه فصل يخدم المنظومة الرأسمالية المتوحشة القائمة على الفردانية المتطرفة المعادية والملغية لدور الأسرة والعائلة في تشكيل وعي الأفراد، والقائمة كذلك على الاستهلاكية الجشعة التي تقتات على الفردانية المتطرفة.
لقد كانت الأسرة التقليدية الضحية الأبرز للرأسمالية، بحيث تكاد تندثر العائلة الممتدة في الدول الغربية الرأسمالية، وهي خلاصة سجلها “لينين” في مرحلة ظهور الرأسمالية الاحتكارية والتي كانت تقتصر على بعض الدول الأوروبية وأمريكا وقبل أن تصل الرأسمالية لمرحتها المتوحشة والكارثية التي تشهدها اليوم والتي وصلت لكل دول العالم. يقول لينين “إن الأشكال العليا للرأسمالية الحديثة تهيء شكلا جديدا للعائلة وشروطا جديدة للمرأة ولتربية الأجيال الناشئة. إن عمل النساء والأطفال وانحلال العائلة البطريركية بسبب النظام الرأسمالي يأخذان حتما في المجتمع الحديث أكثر الاشكال فظاعة واشدها تدميرا”.
كان للرأسمالية المنفلتة من أي قيم متجاوزة دور تخريبي في تدمير الأسرة التقليدية في الدول الغربية، بحيث تقلصت العائلة على مر العقود الماضية لتخلق في إحدى المراحل الأسرة النووية الصغيرة جدا والتي تقتصر على أب وأم وطفل أو طفلين في أفضل الحالات، لتصل اليوم لأسرة بالكاد ينطبق عليها مفهوم الأسرة حتى في صيغتها النووية، بحيث أصبحت الأسرة تعني رجل وامرأة بعقد زواج أو بدونه، أو رجلين أو امرأتين بطفل بالتبني أو دونه، وهو تطور مرتبط غاية الارتباط بتطور الرأسمالية وعلاقتها الجدلية بالفردانية المتطرفة.
بدون الخوض في نقاش هل الرأسمالية هي بنت الفردانية (كإحدى ركائز فكر الأنوار) أم أن الأخيرة هي بنت الرأسمالية (علاقة العام بالخاص والجزء بالكل والإنسان والمادة)، فإن المؤكد أن الفردانية هي الخادم الأكبر للرأسمالية، وبأن الرأسمالية تنعش/تنتعش عبر “فردنة” المجتمعات وتدمير الأسرة التقليدية.
إن تدمير الأسرة التقليدية الممتدة وبعدها تدمير الأسرة الصغيرة وخلق أشكال متطرفة من الأسرة هو نتيجة “طبيعية” لرأسملة المجتمعات، في سياق أيديولوجية تبرر استغلال المرأة والرجل كمنتجين ومستهلكين في الوقت نفسه، استغلال تطلب تغيير مفهوم الجنس وتجاوز المفهوم “الرجعي” للجنس، وقد شكل الإعلام (خصوصا هوليوود)، كإحدى أهم الوسائل الأيديولوجية، دورا محوريا في تغيير مفهوم الجنس والترويج لمفهوم “متطور” و”عصري” للجنس.
إن الفرد الوحيد المنعزل هو أفضل استثمار للرأسمالية وأكبر خادم لها، لذلك فليس غريبا الانتشار المهول لظاهرة الإنسان اللقيط في المجتمعات الرأسمالية الغربية بشكل رهيب.
فمثلا في الولايات المتحدة انتقل عدد المواليد خارج نطاق الزواج من 18% سنة 1981 إلى 40% سنة 2021، وفي مجموع الدول الأوروبية ارتفعت النسبة من 17% سنة 2000 إلى 42% سنة 2018، ووصلت النسبة إلى 60% في فرنسا، في حين أن النسبة في اليونان التي ترتفع فيها نسبة المؤمنين الأرثوذكس المسيحيين إلى 90%، وما تزال الأسرة تحظى بالعناية والاهتمام تصل إلى 10%، أما في تركيا الدول الأوروبية المسلمة فالنسبة لا تتجاوز 3%.
إن الإنسان اللقيط يعيش بقيم سائلة، وهو إنسان قابل لفعل كل الكوارث والمصائب، لأنه انسان ينشئ ابتداء وحيدا بدون أب أو أم أو أسرة أو عائلة، لا يعرف أصلا مفهوم العائلة والأسرة إلا جزئيا من خلال الإعلام، وبالتالي يحقد على المجتمع، ويكون مستعدا تحت تأثير الإعلام الرأسمالي لارتكاب كل الجرائم لانعدام القيم الصلبة التي تلقنها في المقام الأول الأسرة والعائلة، ويتحول لأفضل خادم وأفضل استثمار للرأسمالية، لأنه وعيه يتشكل من خلال الوسائل الأيدولوجية الرأسمالية من مدرسة وإعلام.
إن من علامات تدمير الأسرة وانعزالية الإنسان الغربي هي ظاهرة الاقبال الكثيف على تربية الحيوانات، وهي تربية لا علاقة لها بقيم الرفق بالحيوان، كما تروج الأيدولوجية الرأسمالية، فلقد كانت تربية الحيوانات أمرا عاديا في كل المجتمعات البشرية، لكن الظاهرة في الدول الغربية هي من النتائج الطبيعية للفردانية المتطرفة، ونتيجة لرأسملة “الرفق بالحيوان” الذي تحول لتجارة ضخمة تقدر بملايير الدولارات سنويا، لدرجة ظهور مجتمع حيواني مواز للمجتمع الإنساني بمدارسه ومستشفياته وفنادقه ومحلات تجمليه!!!
وقد بلغ التطرف في هذا الباب درجة من اللامعقول الإنساني ومن السيولة المتطرفة حد انتشار ظاهرة توريث الإنسان ممتلكاته للحيوانات، وأصبحت ثروة كلب ألماني تبلغ 400 مليون دولار، بل وقام بتوريثها لجروه “ابنه”، في حين يعيش ويموت ملايين البشر بسبب الجوع!!!
إنها ظاهرة أصبحت تثير اشمئزازا وغضبا لدى كل إنسان ما يزال يحتفظ بإنسانيته، غضب دفع بابا الكنسية الحالي، فرانسيس للقول “ثمة نوعا من الأنانية، وكثير من الأزواج ليس لديهم أطفال، لأنهم لا يريدون، أو ينجبون طفلا واحدا فقط، لأنهم لا يريدون غيره، لكن لديهم كلبان، وقطتان.. نعم، إن الكلاب والقطط تحل محل الأطفال. نعم، إنه أمر مضحك، أفهم ذلك، لكنه حقيقة”.
وأضاف “هذا الإنكار للأبوة والأمومة يقلل من قيمتنا ويسلبنا بشريتنا. وبذلك تصبح الحضارة عتيقة وبدون إنسانية لأنها فقدت غنى الأبوة والأمومة. إن البلد الذي ليس لديه أطفال يعاني”.
لقد عادت قضايا الأسرة لقلب الصراع الأيديولوجي والسياسي داخل الدول الغربية الرأسمالية، وأصبحت القوى اليمينية ترفع شعار “الله، الوطن، الأسرة”، كتعبير عن عودة قوية للصراع القيمي داخل تلك المجتمعات، بالرغم من أنه صراع يدور داخل المنظومة الرأسمالية نفسها.
والخلاصة هي استحالة فصل مسألة التعصيب في الإرث الإسلامي عن المنظومة القيمية الإسلامية ومنها الإرث، فهي منظومة متكاملة، ولا يمكن قياس منظومة قيمية متكاملة بمنظومة قيمية مناقضة لها، والانتقاص بين فترة وأخرى من المنظومة المتكاملة لخدمة الرأسمالية المتوحشة ورأسمالية الكوارث بتعبير “انتوني لوينشتاين”.
إن المطلوب ليس إلغاء التعصيب بسبب بعض الممارسات المجتمعية، التي تبقى طبيعية في مجتمع بشري إنساني معقد ومركب، وبالتالي هدم جزء من منظومة متكاملة وكمقدمة لهدم كامل المنظومة، خدمة بوعي مزيف، لمنظومة عدو للإنسان وتفتك به وتحوله لشيء، وتنزع عنه إنسانيته، وما يقع في الدول الغربية الرأسمالية خير مثال على مستوى الانحدار أو البربرية (بتعبير وائل حلاق) الذي وصل إليه الإنسان والمجتمع هناك.
وإذا كانت الدول الغربية تشهد عودة قوية لنقاش القيم الصلبة وفي القلب منها الدين والأسرة، فإنه من غير المقبول وسيكون من قبيل الحمق في دولنا التي ما يزال الدين والأسرة والعائلة يلعبون أدوارا محورية وأساسية في تربية الإنسان وتنشئته التنشئة التي تحفظ كرامته وإنسانية، أن يوجد من يدافع عن هدم تلك القيم والسير في طريق تلاحظ نتائجه المروعة في الدول التي مرت منه.