[ After Header ] [ Desktop ]

[ After Header ] [ Desktop ]

[ after header ] [ Mobile ]

[ after header ] [ Mobile ]

ياسين جلوني يكتب: الأنظمة العربية والمنظومة الدولية في ظل طوفان الأقصى

ياسين جلوني


أتى طوفان الأقصى في مرحلة تاريخية حساسة تعرفها البشرية، وذلك بفعل المتغيرات الكبيرة والسريعة للمشهد السياسي والاقتصادي والعسكري الدولي، فتاريخ البشرية مبني على منطق التدافع والصراع، فكل أمة من الأمم وكل حضارة تسعى لقيادة العالم ومد نفوذها عليه، سياسيا واقتصاديا وثقافيا وعسكريا.
والحال أن البشرية منذ أزيد من قرن من الزمان عرفت هيمنة غربية رأسمالية امبريالية استعمارية، كانت بقيادة بريطانيا في مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية، لتمرر بعدها زمام القيادة لأمريكا، ومنذ ذلك الحين إلى اليوم ما يزال هذا الغرب الرأسمالي الاستعماري يهيمن على العالم بمؤسساته السياسية والأمنية (الأمم المتحدة، مجلس الأمن…) والاقتصادية (البنك الدولي، صندوق النقد الدولي…) مع صناعة ثقافية مبنية على خطابات الحداثة (العقلانية، الحرية، المساواة، الديمقراطية وحقوق الإنسان…) لتبسط بذلك نخبة من السياسيين والاقتصاديين والأمنيين والعسكريين الغربيين سلطتها وسيطرتها على أغلب دول العالم، أو ما يسمى بدول العالم الثالث، في حين استطاعت بعض الدول أن تحفظ استقلالها وتضمن مصادر قوتها ومصالحها، وأن تكون ندا لأمريكا ومعسكرها الذي يضم دول أوروبا الغربية.
فرغم تفكك الاتحاد السوفياتي إلا أن روسيا ما تزال تحافظ على قوتها العسكرية ووزنها في العالم، بالإضافة للصين كقوة اقتصادية عملاقة انطلقت منذ سنوات في سباق اقتصادي متسارع، وأصبحت تزاحم أمريكا على الصدارة. بالإضافة لدول أخرى كإيران التي لا يمكن أن يرد اسمها في الإعلام الدولي دون أن يرافقها معجم خاص بها (العقوبات الدولية، البرنامج النووي الإيراني…) دون أن ننسى تركيا التي تقوى حضورها العسكري والسياسي والاقتصادي منذ عقدين، إضافة إلى بعض الدول في أمريكا اللاتينية التي ما تزال تقاوم الهيمنة الأمريكية.
الملاحظ أنه منذ بضع سنوات بدأت تتراجع موازين القوى الأمريكية، في حين كسب منافسوها مساحات أكبر، فعلى المستوى العسكري اضطرت واشنطن إلى أن تسحب قواتها العسكرية بكل من أفغانستان والعراق، بعد أن أصبحت تكلفتها أكبر وعاجزة عن جلب مصالح للبيت الأبيض. واستمرت تراجعاتها العسكرية بعد أن دخلت في صراع عسكري مع روسيا عبر وكيلتها أوكرانيا التي تخوض حربا بالوكالة عن المعسكر الغربي. أما في الجانب الاقتصادي، فالكل يعلم التأثير الكبير لأزمة 2008 التي عرت جزءا من هشاشة النظام الاقتصادي الأمريكي، والذي أفقدت ثقة المواطنين الأمريكان في مؤسساتهم المالية، لتنتج عقبها حملة احتجاج ترفع شعار “احتلوا وول ستريت”، بالإضافة لما سبق ذكره من تعاظم القوة الاقتصادية للصين التي أصبحت تشكل كوابيس حقيقية لأمريكا.
في ظل كل هذا وذاك تأتي معركة طوفان الأقصى دون أي سابق إنذار، في ظل انشغال أمريكا بحربها مع روسيا وبصراعها مع الصين، لتشكل عنصر مفاجأة أربك الحسابات الأمريكية، ما جعلها تتخبط خبط عشواء، فمنذ بداية المعركة أرسلت حاملة طائرات عملاقة للبحر الأبيض المتوسط، وفوتت للكيان الصهيوني القنابل الفتاكة والصواريخ الهدامة، وأحدث الطائرات الحربية، رغبة منها في إنهاء الحرب في أسرع وقت وتوفير الغطاء اللازم للكيان الصهيوني في إبادة شعب غزة وإخضاع المنطقة، فضربة السابع من أكتوبر جعلت أمريكا تحس بأن الأمور بدأت تخرج عن سيطرتها، لذلك حشدت كل جهودها للقضاء على المقاومة وإرغامها على الاستسلام.
ورغم كل هذا الحشد والنفير، ورغم التقتيل والتجويع، مازالت المقاومة صامدة، ومازال الشعب الفلسطيني صابرا، ومعها تتصدع قوة أمريكا في العالم، وسقطت أقنعتها ومعاييرها المزدوجة وخطاباتها الرنانة حول الديمقراطية وحقوق الإنسان، وأصبحت أصابع الاتهام موجهة لها من الشرق والغرب من الشعوب والحكومات، لرعايتها للإرهاب الإسرائيلي الذي دمر البشر والشجر والحجر، وتجرأت العديد من الدول للقيام بخطوات رافضة لما يقع، كإسبانيا وجنوب إفريقيا ودول أمريكا اللاتينية، أما روسيا والصين فبدأتا تسحبان البساط من تحت راعية السلام زورا في العالم، وبدأتا تكشفان زيف قيمها وازدواجية معاييرها.
ما نسجله في ظل كل هذه المتغيرات هو أن العديد من الدول اليوم بما في ذلك من أشرنا لها في هذا المقال، أصبحت تبحث لها عن مكان تحت الشمس في ظل التراجع الأمريكي وتخبطها بفعل استمرارها في رعاية الإرهاب الإسرائيلي، وهمت باكتساب مساحات جديدة اقتصادية وسياسية على حساب أمريكا، وهناك من الدول من تشجعت وتجرأت على أن تحاكم الكيان الصهيوني بمحكمة العدل الدولية أمام أنظار العالم، الحديث هنا عن دولة جنوب إفريقيا التي تبنت الدفاع عن القضية الفلسطينية في المحافل الدولية، لتقود حملة دعم ومساندة دوليين من مختلف الأقطار.
أمام تسابق أنظمة ودول عبر العالم للدفاع عن القضية الفلسطينية، وكسر حاجز الصمت والسكوت عن جرائم المعسكر الغربي، فباستثناء اليمن، نجد أغلب هذه الدول والأنظمة لا تربطها لا رابطة تاريخ ولا جغرافيا ولا دين ولا لغة ولا عرق ولا ثقافة بفلسطين وشعبها، وهنا يتجدد السؤال من جديد: ما محل الدول العربية من الإعراب؟
في الوقت الذي تسارع الدول في العالم لتنظيم صفوفها وتوسيع مصالحها والقيام بحساباتها لجلب مكاسب جديدة لها ولأممها، نجد أن الأنظمة العربية هي الغائب الكبير عن هذه المعادلة، فمع اقتراب سقوط إسرائيل نجدها أكثر تشبثا وولاء لأمريكا ولعلاقاتها الظاهرة والباطنة مع الكيان الغاصب، بل وتستجدي الحماية والأمن منها، ونجدها أكثر إمعانا في الاستمرار في وسائلها البائدة في الاستبداد بشعوبها واستبلادها وقهرها. فها هو سيسي مصر يعيد تعيين نفسه فرعونا لمصر مع ما يقدمه من خدمات جليلة للعدو الغاصب/بإمعانه في حصار غزة وتجويع أهلها، أما بعض دول الخليج فقد اختارت تسهيل تدفق السلع والأسلحة عبر مجالها الترابي بعد أن قامت اليمن بإطباق حصار بحري على موانئ الكيان الغاصب، وها هو المغرب ما يزال وفيا لالتزاماته مع العدو الصهيوني الغادر في حين يدير ظهره للمطالب الشعبية بإسقاط التطبيع.
في نفس الوقت كذلك الذي تتعزز فيه تكتلات جديدة، وتتجاوز فيه بعض الدول خلافاتها من أجل تقوية موقعها الإقليمي ووزنها السياسي واستغلال الظرفية لتوسيع هامش تحررها من الهيمنة الغربية وحركتها الاقتصادية والأمنية، وفي ظل هذه الظرفية الحساسة التي تمر منها القضية الفلسطينية، نجد أن النظامين الجزائري والمغربي بالكاد يمعنون في المزيد من التحريض عبر الأبواق الإعلامية التي تمول من المال العام لإشعال نار الفتنة والصراع بين شعبين جارين شقيقين يشتركان في التاريخ والجغرافيا واللغة والدين والثقافة، عبر استغلال نافذة الرياضة التي الأصل فيها تحقيق التواصل والتعايش بين الشعوب، رياضة استغلت كوقود لإشعال الفتن والأحقاد بدل استغلالها لتجاوز الخلافات والتكاثف من أجل دعم القضية الفلسطينية.
في مقابل هذا الحب من طرف واحد الذي تكنه الأنظمة العربية لأمريكا وللكيان الغاصب، نجدها عاجزة حتى عن إمداد الشعب الفلسطيني الأعزل بالماء والدواء والغذاء وفك الحصار عليه، فما بالك أن ننتظر منها التدخل لإيقاف الإبادة الجماعية، أما الجيوش العربية فقد أسست لضبط الشعوب، وبرمجت أسلحتها لتوجه لبعضها البعض وليس للغزاة المحتلين للأسف الشديد.
كان من المنتظر في هذه المرحلة بالذات من هذه الأنظمة أن تقلب الطاولة على أسيادها في الغرب، وتتحرر ولو جزئيا من التبعية والإملاءات الخارجية، إلا أن عكس ذلك وقع للأسف، فتفاعل الأنظمة العربية العميلة يبرز افتقارها لأي ذرة استقلالية، بل تؤكد المقولات التي تدعم كونها أنظمة ما بعد الاستقلال التي بنيت دعائمها ومفاصلها بيد الاستعمار وعلى أعينه، فهي إما أنظمة عسكرية أو بوليسية، فشرعيتها من خارج الشعوب والحدود، وولاؤها لمصالحها ولمصالح صانعيها وليس لشعوبها وقيمه. فللأسف الشديد أن قدر الشعوب العربية اليوم أن تكون ضحية استعمار غاشم بأيدٍ استبدادية أجنبية الصنع.
فأيما معركة ضد الاستبداد في أوطاننا العربية هي ذاتها معركة للتحرر من أعباء المرحلة الاستعمارية الماضية، وبدل أن تكون لدولنا العربية والإسلامية الأسبقية للتفكير في تقوية وضع الأمة عالميا وبناء تكتل جديد موحد وقوي، نجدها تنتظر من يقود العالم لتصبح ذيلا له من جديد.
إن زوال إسرائيل مبشر بزوال الغمة التي عمت الأمة منذ قرن من الزمن أو يزيد، غمة الاستعمار والاستبداد والاستبلاد، وما لم تستفد هذه الأنظمة العربية من دروس التاريخ ومن تقلبات موازين القوى الدولية، وما لم ترجع لشعوبها وتسترجع شرعيتها المفقودة، فإن قدرها أن تكون ذليلة مسلوبة الإرادة.
فمهما طال الزمن أو قصر، لابد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر.

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.