دداي ببوط
من أسباب نزول هذا المقال النقاش الدائر حاليا حول ما احتوته مذكرة المجلس الوطني لحقوق الإنسان من أراء استشارية لتعديل مدونة الأسرة التي صدرت من منظمة استشارية تحظى بوضع المؤسسة الدستورية الوطنية الجامعة التي يفترض فيها الدفاع عن ركائز ومقومات الهوية الدينية والوطنية للأمة المغربية، والأسباب الكامنة وراء استفراد رئيسة المجلس بالقرار في هذا الشأن وعدم إخضاعه للمناقشة الكافية داخل أروقة المجلس، والتي هي سليلة المنظمة المغربية لحقوق الإنسان إحدى بنات الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وأهم تنظيماته الموازية مدعومة ببعض الأعضاء المنتمين لقوى اليسار الأخرى وبعض المنظمات المدنية، وتهميش باقي الأعضاء الآخرين الذين يمثلون مؤسسات ومشارب وحساسيات فكرية أخرى تشتغل في الساحة الوطنية وتحظى بعضوية المؤسسة نفسها، والتي لن نخوض في نقاشها في هذا المقال الآن بقدر ما سنسلط الضوء على الأسس والمرجعيات والتمثلات الذهنية والنفسية التي تجعل المنتمين لتيار أيديولوجي معين يتصورون أنفسهم آباء روحيين للحركة الحقوقية المغربية، ولا مكان لغيرهم في النقاش العام حولها ولا تتعدى أدوارهم حدود مباركة خطوات هذا الأب باعتباره العارف المتمرس في هذا الميدان والمدافع التاريخي عن حقوق الإنسان، والضحية السابق وغيرها من التبريرات التي يعتبرها هذا الوالد أسسا لا محيد عنها لهذه الأبوية المزيفة.
ينطلق اليسار الحزبي المغربي من محطات تاريخية في زمننا المعاصر مقتطعا إياها من سياقها الاجتماعي والسياسي والتاريخي الذي أعقب الإعلان عن حالة الاستثناء منتصف الستينيات باعتباره سياقا منشئا لأمجاد اليسار ومركزيته في الدولة والمجتمع والنضال الحقوقي، ويغفل عن ما سبقها من تاريخ حافل بالنضال السياسي والحقوقي والأطروحات المتعددة في هذا الشأن، لفرقاء آخرين ساهموا وعلى فترات متعددة في هذا الباب، فالباحث في التاريخ المعاصر للدولة المغربية لا يرى تميزا أو استئثارا لفصيل سياسي أو أيدولوجي بأبوية الملف الحقوقي بقدرما يجد أن كل حساسيات المجتمع وقواه الحية ساهمت بقدر معين في نشوء الحركة الحقوقية الوطنية ورفع لواء مطالبها، بدءا من حقبة الاستعمار حيث دافع رواد الحركة السلفية الإصلاحية المغربية من تجار وفقهاء عن حقوق أبناء المغاربة في تعليم عربي عصري يضاهي مدارس الحماية وأسسوا المدارس لذلك، كما دافع اتحاد النقابات الكونفدرالية عن حقوق الشغيلة المغربية في مواجهة سياسة الاستغلال الاستعماري ونقل الثروات إلى المتروبول، وإبان ذلك قدمت كتلة العمل الوطني بقيادة الوطنيين الأفذاذ من علال الفاسي ومحمد بلحسن الوزاني وإخوانهم برنامج الإصلاحات المغربية لسلطات الحماية منتصف ثلاثينيات القرن الماضي تضمن مطالب الشعب المغربي في الإصلاحات السياسية والثقافية والاقتصادية وتمكين المواطنين المغاربة من المساهمة في الحكم وغيرها من المطالب التي دافعت عنها قوى الحركة الوطنية باختلاف حساسياتها سلميا، ونقل الدفاع عنها جيش التحرير إلى ميدان المعركة وتضمنها خطاب طنجة التاريخي للملك المجاهد المغفور له محمد الخامس سنة 1947 الذي اعتبر الاستعمار أم الكبائر والحائل الحقيقي دون تمتع الشعب المغربي بكل حقوقه، وكان هؤلاء الآباء هم المؤسسون الحقيقيون للظاهرة الحقوقية بالمغرب خلال هذه المرحلة والتمرين الأول الذي نقل الحديث عن الحقوق والمطالبة بها من السياق المحلي إلى الوطني، أعقبتها تمارين مهمة عاشتها الدولة المغربية الناشئة بعد الاستقلال، عانت فيها فصائل سياسية وأفراد قرويين وجماعات معينة- كما قال تقرير هيئة الإنصاف والمصالحة- من تجاوزات نسبت في أغلبها لفرقاء سياسيين ينتمون للجناح اليساري لحزب الاستقلال، وطالت وطنيين منتمين لحزب الشورى والاستقلال وبعض أفراد جيش التحرير الذين احتجزوا في مراكز الاعتقال أو تمت تصفيتهم مباشرة بعد الاحتجاز، وقد قادت هذه الأفكار معتنقيها إلى الاصطدام مع الدولة بعد سقوط حكومة عبد الله إبراهيم وما تلاها من احتقان سياسي حاد عجل بإعلان حالة الاستثناء والبدء فعليا في حقبة سنوات الرصاص التي طال لهيبها كل من جاهر بقول لا للدولة ولسياستها التدبيرية أو شارك في أعمال عدائية لقلب النظام سواء من أفراد سياسيين أو عسكريين، وقد طال الاعتقال العديد من قادة اليسار المغربي على تعدد انتماءاتهم بعد موجة الانشقاقات التي عرفها الاتحاد الوطني للقوات الشعبية والحزب الشيوعي المغربي وظهور توجهات أخرى أكثر تطرفا من بعض قوى اليسار تريد السيطرة على المجتمع والدولة وإقامة ديكتاتورية البروليتاريا. وقد كانت هذه المرحلة هي المختبر الفعلي لنشوء هذه المقولة لدى كثير من منتسبي اليسار المغربي وقادته فاعتبروا أنفسهم الأب الروحي للظاهرة الحقوقية ونضالاتها والمعارض الوحيد والأوحد الذي بنيت له السجون والمعتقلات دفاعا عن الشعب والأمة وغيرها من المقولات الفضفاضة غير التاريخية.
وطبعا لم يكن لهذه الكلام نفس الصخب بين مكونات ذلك اليسار بسبب الانقسام إلى عدة أحزاب تنوعت من يسار الوسط الإصلاحي إلى اليسار إلى اليسار الجذري حيث كان الصخب يقوى كلما اتجهنا أقصى اليسار، في تناقض تام مع قواميس الفكر الفلسفي والحقوقي المعاصرة التي ظلت إلى عهد قريب تصنف اليسار الجذري رديفا للسلطوية والديكتاتورية ومعارضا للأفكار الديمقراطية وحقوق الإنسان بمفهومها الكوني. ولم يستطع اليسار المغربي المتغني بالحقوقية تأسيس منظمة حقوقية واحدة جامعة ترفع لواء المطالب الحقوقية المتوافق عليها بين كل مكوناته بل كان لكل طرف منه منظمته الحقوقية المتأثرة بسحنته السياسية وعقيديته الحزبية والمدافعة على أعضائه؛ فكانت الجمعية المغربية لحقوق الإنسان لليسار الجذري والشيوعيين وجزء من يسار الوسط وبعض اللامنتمين، وكانت المنظمة المغربية لحقوق الإنسان لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ومناصريه والدائرين في فلكه من التنظيمات الحزبية الصغيرة، فضلا عن تنظيمات حقوقية أخرى صغيرة حاصلة على الترخيص العمومي لكنها لا تعمل في الميدان، فما كان من اليمين الوطني أمام هذا الوضع إلا أن يؤسس جمعياته الحقوقية أيضا؛ فكانت العصبة المغربية لحقوق الإنسان لحزب الاستقلال وكذلك الحال لمنتدى الكرامة لحقوق الإنسان القريب من حزب العدالة والتنمية، ورغم أن كل هاته التنظيمات لم ترفع شعار الحزبية الضيقة أمام من يريد أن ينظم إليها وينشط بداخلها أو يطلب مساندتها إلا أن ولاء أعضاءها كان لأحزابها وتنظيماتها السياسية كما كانت أجهزتها مسيرة في جزء كبير منها من أعضاء تلك التنظيمات الشيء الذي يبين بالملموس بأن الظاهرة الحقوقية بالمغرب ظلت رديفة للظاهرة السياسية في كثير من الأحوال تغرف منها المبادئ العامة للاشتغال وأساليب العمل ومنهجيته وحدود التضامن والمساندة في علاقة مع باقي الفرقاء إن وقعت مطبات حقوقية كبرى في البلاد.
ولا نبالغ إن قلنا ان التجارب البسيطة التي وقعت في هذا الباب أثبتت بما لا يدع مجالا للشك اصطفاف الكثير من منتسبي اليسار وقادته وبعض حقوقييه ضد معارضيهم في قضايا حوكموا فيها تعسفا أو بمحاولة إلصاق تبعات أحداث إجرامية بغرماء سياسيين هم منها براء كما وقع في التفجيرات الإرهابية للدار البيضاء في16 ماي 2003 وتعليق آثامهما عليهم وعلى المؤسسات الدينية الجامعة والكتاتيب القرآنية التي تعد أحد أهم مقومات هويتنا الدينية والحضارية، فالمبادئ الحقوقية لا تتجزأ ولا تخضع لبارومتر السياسة والأيديولوجيا بل هي نقيضتهما تماما، وأبوية النضال الحقوقي لا تتحقق إلا للمتعالين عن الحزازات الفكرية والرافعين للواء الدفاع عن الخصوم المختلفين قبل الأنصار والاتباع، والمبتعدين عن توريط الخصوم والتموقع ضدهم إن تعرضوا لمحاكمات أو اتهامات مزيفة تستهدف النيل منهم والإجهاز على حقوقهم، فالحقوقية لم تكن أبدا رديفة للاصطفاف العقدي أو المذهبي أو السياسي وليست أداة لتوزيع نعوت الرجعية والتقدمية يمنة ويسرة، بل هي نزعة متعالية جامعة لكل معتنقيها لا تهمهم أفكار ولا معتقدات من يريدون التضامن معه أو الدفاع عن حقوقه، كما انها إحدى بنات الفكر الديمقراطي وتطوره المتسارع خاصة في العقود الأخيرة ولنا في التجارب الدولية خير دليل على هذا، فحزب المؤتمر الإفريقي الذي خاض نضالا حقوقيا وسياسيا سلميا طيلة عقود -عاني خلالها من اضطهاد وغطرسة البيض الأفريكارنر الذين مارسوا نظام الأبارتايد على الساكنة الأصلية لجنوب إفريقيا وأساليب مغالية في القمع و هدر حقوق السود- لم يعتنق قادته وفي مقدمتهم الزعيم الراحل نيلسون مانديلا أي عقيدة إقصائية اتجاه جلاديهم بل دعوهم للتعاون من أجل بناء بلدهم بعد انهيار نظام الفصل العنصري، كما أن كل ذلك الزخم الذي تحقق لهم آنذاك ولا يزال، لم يكن مدعاة لهم للتعالي الفكري أو السياسي أو تصوير أنفسهم كمخلصين تاريخيين للأفارقة والمضطهدين في العالم ومناضلين فوق العادة، بل اعتبروا أنفسهم مجرد شركاء لبناء وطن يتسع للجميع، ومدافعين عن حقوق المظلومين من باقي شعوب العالم، وهناك أمثلة أخرى في تجارب دولية خلاقة لا يتسع المجال لذكرها.
خلاصة القول إن المبادئ لا تتجزأ وخطاب حقوق الإنسان يجب أن يظل متعاليا عن التجاذبات السياسية والاصطفافات الإيديولوجية، شأنه في ذلك شأن القضايا الوطنية الجامعة خاصة إن كانت مرتبطة بديننا ومقدساتنا ومقومات هويتنا الدينية والاجتماعية والحضارية. التي يجب أن يحفظ فيها لكل طرف دوره كما يقتضيه دستور البلاد وقوانينه المنظمة، وأن كل من يقاوم أو يجاهد أو يبذل دفاعا عن بلده أو كرامة أهله وذويه إنما يفعل ذلك ليس لحظوة معنوية أو مادية زائلة لأنها أقل الأشياء الواجب بذلها اتجاه الأوطان لأن حبها من الإيمان.