[ After Header ] [ Desktop ]

[ After Header ] [ Desktop ]

[ after header ] [ Mobile ]

[ after header ] [ Mobile ]

جلوني يكتب: نقاش المدونة وإشكالية السياقات

ياسين جلوني


 

لطالما اعتبرت قضايا التشريع في المسائل الاجتماعية من أخصب مجالات الصراع الايديولوجي بين النخب المغربية، فمن يشرع للمجتمع ويسن قوانينه فإنه يرسم تضاريس المجتمع وينحت واقعه ومستقبله. كما أن هذه القضايا تحصد مساحات كبيرة من اهتمام الرأي العام، أكثر من القضايا السياسية والاقتصادية، التي ما يزال تداولها محدودا في بنيات المجتمع المغربي. فقضايا الزواج والطلاق، وما يرتبط بهما من مشاكل وظواهر اجتماعية وغيرها من القضايا المتشابكة التي لها ارتباط مباشر بواقع الناس ومعاشهم، هو أكثر ما يملأ صفحات الجرائد، ويغذي مجالات الفن من أغاني ومسلسلات وأفلام، وأكثر ما يملأ أحاديث الناس في المقاهي واللقاءات العائلية.
وبالتالي يحظى النقاش الدائر حول مدونة الأسرة باهتمام كبير من طرف فئات شعبية كثيرة، ففور إطلاق المشروع الملكي لتعديل المدونة، تناقلت العديد من المواقع والصفحات إشاعات بخصوص المقترحات التعديلية الغريبة والعجيبة، والتي قد يراها البعض محاولة لجس نبض الرأي العام المغربي، إلا أن التفاعل مع هذه الاشاعات كان كبيرا.
على أي، فمدونة الأسرة بعد حوالي عقدين من الزمن من إقرارها كان ولا بد من إعادة تقييمها ومراجعة مضامينها، لاسيما مع الكثير من التغييرات التي شابت بنية المجتمع المغربي، بالإضافة إلى دق ناقوس الخطر بسبب تفشي العديد من الظواهر السلبية التي تهدد استقرار النسيج الاجتماعي المغربي كتنامي ظاهرة الطلاق والعزوف عن الزواج، وارتفاع معدلات سن الزواج وشيوع مظاهر التفكك الأسري…
لا يمكن أن يكون النقاش حول مدونة الأسرة إلا نقاشا صحيا، تتدافع فيه المرجعيات والرؤى والنظريات، إلا أن هناك أمرا يجعلنا نرتاب من هذا النقاش في هذه الظرفية بالذات.
ففي الظروف العادية لأي دولة ديمقراطية ضمنت لأبناء شعبها الحريات السياسية وحرية التعبير، كما ضمنت للنخب المجتمعية من مختلف التوجهات نفس المساحات ونفس الفرص ونفس مجالات التعبير والاقناع، وتتمتع بمؤسسات مستقلة وتحظى بثقة شعبية، فإنه لا خوف فيها من أي نقاش مجتمعي مهما وصلت حدة الاختلاف فيه بين أبناء المجتمع الواحد، لآنها تتمتع بآليات ديمقراطية تضمن التنافس النزيه كما تضمن نتائج لن تخرج عن اختيارات المجتمع، بل تكون منبثقة عن توجهات المجتمع بمختلف تياراته.
إلا أن واقعنا المغربي مختلف تماما، فالمغرب للأسف الشديد لم يرس بعد قواعد الديمقراطية في البلاد، بل الأدهى والأمر أنه يمر في السنوات الأخيرة بمرحلة خطيرة من التراجعات على المكتسبات السابقة، فقد تراجعت الحريات السياسية وحرية التعبير بشكل كبير، وتم إضعاف المؤسسات المنتخبة بشكل مهول، وشابت العملية الانتخابية الأخيرة الكثير من الخروقات، كما أنه منذ فتح ورش تعديل المدونة تم تغييب مكون مهم من أهل الاختصاص في الموضوع، والحديث هنا عن مؤسسة العلماء، التي قلص حضورها في اللجان الرسمية وحرمت بالكامل من الادلاء برأيها في مؤسسات الإعلام العمومي التي تمول من أموال دافعي الضرائب.
العلماء ليسوا الوحيدين من تعرضوا لهذا التضييق، بل كل من له أراء واختيارات وتوجهات مغايرة لتوجهات “التيار الحداثي”، والذي فتحت له المنابر والمنصات، وحظي بدعم رسمي غير مسبوق، وهذا الأمر ما يجعلنا نتوجس من هذا النقاش بشكل كبير، فبغض النظر عن نقاش صوابية اختيارات أي تيار، فإن المنهجية المتبعة في تدبير هذا النقاش تثير مخاوف من أن هناك شيئا يحاك بليل، وأن هذا النقاش لن تكون مخرجاته متوافقة مع اختيارات المجتمع، وهذا ما جعل أحد رموز التوجهات الاسلامية في المغرب يلوح باللجوء للشارع.
في اعتقادنا أن صانعي القرار السياسي في المغرب لم يعودوا يهتمون بالمسيرات والوقفات، ولم يعودوا يقيمون وزنا للتيار الاسلامي برمته في البلاد بعد أن تم تغييب صوته في هذا النقاش، فمادام قانون الفرنسة والتطبيع قد مررا في ظل ترأس حزب العدالة والتنمية للحكومة، وهو ما لم يقابل قط في تلك المرحلة بأي مقاومة أو رفض من طرف الحزب الذي يروج دوما أنه يتبنى المرجعية الاسلامية، كما أن هذا الأمر لم يقابل أيضا برفض شعبي في الشارع المغربي، وهو ما نعتقد أنه حفز صانعي القرار في المغرب لتمرير تغييرات في مدونة الأسرة قد لا تتوافق مع مرجعية المجتمع والدولة، فمن أمن الرفض الشعبي والاحتقان الاجتماعي أساء التدبير والتشريع للأمة.
هنا لا بد أن نذكر أن أصل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي نعيشها في المغرب هي أزمة الاستبداد والفساد، وبالتالي فلا إصلاح اقتصادي واجتماعي دون إصلاح سياسي، فمن ينادي بإصلاح مدونة الأسرة وفق المرجعية الاسلامية لا يمكن أن يظل صامتا عن واقع الاستبداد الذي نعيشه، والذي من تبعاته التحيز الفاضح للتيار الحداثي التغريبي دون غيره، فالضامن الوحيد للتحيز لاختيارات الشعب هو إرساء قواعد الديمقراطية في البلاد.
إن ما يعانيه التيار الاسلامي اليوم (العدالة والتنمية، الحركات الاسلامية، الدعاة والوعاظ…) من تضييق ممنهج ما هو إلا نتيجة تقاعس هذا التيار عن الانخراط في المعركة الديمقراطية، وصمته عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الناس السياسية والاقتصادية، حتى جاء الدور على القضايا الاجتماعية والهوياتية، وهو ما جعل البعض يشكك في مصداقية التيار الاسلامي بكون انتفاضهم ضد دعوات التيار الحداثي ما هي إلا فرصة لاستعادة الشرعية الشعبية المفقودة.
نقاش إصلاح مدونة الأسرة فرصة لقطاع واسع من أبناء التيار الاسلامي المعتزلين للنقاش السياسي لإعادة النظر في هذا الاختيار، بعد أن اتضح أن السياسة إن لم تمارسها تمارس عليك، وأن الانسحاب من المعركة الديمقراطية ستكون ضريبته مكلفة في القضايا الاجتماعية والهوياتية، أما بالنسبة لحزب العدالة والتنمية فيجني تبعات اختياره للتدبير بدل السياسة إبان حكومة العثماني، ورفعه لشعار “إسناد الدولة” بدل “إسناد المجتمع” في قضايا الديمقراطية وحقوق الانسان.
إن أخطر ما يهدد إصلاح مدونة الأسرة في الظرفية الراهنة هو سياق تجريف الحياة السياسية والحقوقية في البلاد، والذي يعطي الضوء الأخضر لتمرير اختيارات مخالفة لهوية المجتمع وتحيزاته، كما يعمل على تعميق الخلاف بين مكونات هذا المجتمع وإشعال فتيل الصراعات والحساسيات النفسية والحرب الكلامية في الوقت الذي برزت فيه بوادر تلاقي وتقاطع هذه النخب في دفاعها عن القضية الفلسطينية.
في اعتقادنا أن أولوية الأولويات أمام جميع النخب الوطنية على اختلاف ايديولوجياتها وانتماءاتها ومرجعياتها هو تكثيف الجهود والانخراط الكلي في المعركة الديمقراطية، والوقوف وقفة رجل واحد أمام حملة التجريف التي تطال الحياة السياسية بكل مكوناتها، والتعاون على وقف التطبيع الرسمي في ظل الإبادة الجماعية لسكان غزة، وتأجيل الصراعات الإيديولوجية نصرة للمسألة الديمقراطية ولقضية الأمة القضية الفلسطينية.
ياسين جلوني
2024/03/31

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.