[ After Header ] [ Desktop ]

[ After Header ] [ Desktop ]

[ after header ] [ Mobile ]

[ after header ] [ Mobile ]

الشنقيطي: رسائل النيران بين إيران وإسرائيل

كان من المتوقَّع أن تردَّ إيران على قتل إسرائيل ضباطَها الكبار داخل قنصليتها في دمشق، وذلك لأسباب عدة، أهمها تثبيت خطوط الردع الحُمْر بين الطرفين، وهي خطوط تجاوزتها إسرائيل باستهدافها مؤسسة دبلوماسية إيرانية.
وهذه سابقة لم تحدث من قبلُ في الصراع المنضبط بين الطرفين بضوابط الواقعية السياسية من طرف إيران، وسقف المصلحة الأميركية من طرف إسرائيل. وقد جاء الردّ الإيراني متسقًا مع فكرة ضبط ميزان الردع، فتجاوزَ خطًا أحمرَ مهمًّا لم تتجاوزه إيران من قبلُ، وهو ضرب إسرائيل بسلاحٍ مُنطِلق من داخل الأرض الإيرانية.
فالجديد الذي يشكل سابقة فيما شهدناه مساء أمس، هو هذا الاستهداف الإيراني لإسرائيل -جهارًا- من داخل الحدود الإيرانية، لا من لبنان أو سوريا أو العراق أو اليمن، الدول العربية الأربع التي اتخذتها إيران في الأعوام الأخيرة منطلقًا لإدارة صراعها مع إسرائيل، ومنصَّة لإطلاق أي ضربة تريد توجيهها إليها.
وهذا الكسْر الإيراني لأحد أهم الخطوط الحُمْر المرسومة بينها وبين إسرائيل؛ ردًا على كسر إسرائيل لخط أحمر آخر، يؤْذن بأن الصراع الإستراتيجي بين الطرفين بدأ يخرج من نطاق الحرب الخفية غير المباشرة إلى الحرب الصريحة المباشرة.

كل من يقلِّل من قيمة هذا الهجوم للقضية الفلسطينية، فهو إما أن يكون ممن لا يفقهون الشِّق النفسي من الحروب، أو ممن لا يفهمون هشاشة المجتمع الصهيوني

وربما تجرأت إيران على هذا الرد المباشر – الذي لا سابق له- استغلالًا لوضع نتنياهو المتضعْضِع في الداخل الإسرائيلي، والإشكالات في علاقاته بالأميركيين، واستنزافه في حرب غزة، بحيث يصعب عليه فتح جبهة حرب مباشرة مع إيران في هذه الظروف؛ خوفًا من انفتاح جبهات أخرى عليه، خصوصًا من جنوب لبنان والجولان. فضلًا عن أنّ من مصلحة إيران السياسية ضرْبَ إسرائيل بشكل مباشر أثناء حرب غزة، ترسيخًا لمصداقيتها ومكانتها، باعتبارها الحليف العسكري الأهم للمقاومة الفلسطينية.
فإذا ردَّت إسرائيل على الهجوم الإيراني بضرب الأراضي الإيرانية، فستخرج الأمور عن لعبة الردع المعتادة بين الطرفين، ويغدو التحكُّم في سقف الصراع عسيرًا في المستقبل، خصوصًا بالنسبة للأميركيين الحريصين على التحكم في مسار الصراع ومداه.

ويمكن إجمال دلالات الهجوم الإيراني على إسرائيل من عدة زوايا، منها أثره على حرب غزة، وعلى الوضع الفلسطيني عمومًا، ثم أثره على السياق العربي، خصوصًا دول شرق البحر الأحمر، وشرق البحر المتوسط. وأخيرًا النظر فيما إذا كان هذا الهجوم الإيراني على إسرائيل بداية مواجهة حرب ممتدة، متعددة الأهداف، متشعّبة الأطراف، أم أنه سيرغم الطرفين على الرجوع لقواعد الاشتباك التقليدية بينهما.
فمن زاوية الحرب في غزة، يمكن القول؛ إن أي ضربة إيرانية لإسرائيل – مهما كانت رمزية – مفيدة لأهل غزة، وفيها تخفيف عنهم من أعباء الحرب الهمجية التي تشنها إسرائيل عليهم. وقد استفاد أهل غزة من هذه المواجهة الإيرانية – الإسرائيلية من أول يوم. فبعد استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق مباشرة بدأت إسرائيل تسحب معظم قواتها من غزة، فيما يبدو أنه استعدادٌ وقائيٌّ لأي مواجهة على الحدود الشمالية مع لبنان وسوريا، بحكم التحكم الإستراتيجي الإيراني في هاتين الجبهتين.
ويمكن أن تستفيد جبهة غزة من هذه المواجهة فوائد أخرى جمَّة، منها:
اضطرار الإسرائيليين إلى وقف الحرب في غزة؛ تجنبًا للقتال على جبهتين: جبهة غزة في الجنوب، وجبهة لبنان والجولان في الشمال. وهذا ما يحرص عليه الإسرائيليون على الدوام. اضطرار الأميركيين إلى الضغط لوقف الحرب؛ تفاديًا لانفجار إقليمي غير مُتحَّكم به، خصوصًا أن مكانة أميركا في المنطقة وصلت إلى الحضيض، بسبب تواطئِها المشين في حرب غزة. زيادة الدعم العسكري والتقني الإيراني للمقاومة الفلسطينية كمًّا ونوعًا؛ نكايةً في إسرائيل وانتقامًا منها. وقد يؤدي ذلك إلى تطور نوعي في تسليح هذه المقاومة وأدائها.
ومن زاوية القضية الفلسطينية بشكل عام، يمكن القول؛ إنه لا يوجد سلاح ضد الاستعمار الإسرائيلي الاستيطاني في فلسطين أمْضَى من سلاح الخوف والهلع، وإن بثَّ الهلع في المجتمع الإسرائيلي هو أهمُّ ثمرات الهجوم الإيراني على إسرائيل مساء أمس.

وكل من يقلِّل من قيمة هذا الهجوم للقضية الفلسطينية، فهو إما أن يكون ممن لا يفقهون الشِّق النفسي من الحروب، أو ممن لا يفهمون هشاشة المجتمع الصهيوني، وهو مجتمع مُلفَّق من أشتات بشرية قادمة من جميع أرجاء العالم، وأغلب أفراده يحملون جنسية مزدوجة. فأي شعور بعدم الأمان والاطمئنان يمكن أن يدفع بقسم وافر من هذا المجتمع المصطنَع إلى الهروب، وبذلك يتآكل المشروع الصهيوني ويبدأ في الاندثار.
وقد أشارت صحيفة (جيروزاليم بوست) الإسرائيلية منذ يومين إلى أنّ حالة من الهستيريا والهلع تسود المجتمع الإسرائيلي، منذ الهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية. وذكرت أن الإسرائيليين يسحبون النقد من ماكينات البنوك، ويخزِّنون المياه، ويشترون كل مولِّدات الكهرباء المتاحة في السوق، في هلع وخوف.
ومنذ سنين أجرى مركز الدراسات الإيرانية بجامعة تل أبيب استفتاء، نشرت نتائجه صحيفة هآرتس الإسرائيلية، وتبيَّن منه أن نحو الربع من الإسرائيليين يفكرون في الهجرة من إسرائيل نهائيًا حالما تعلن إيران عن حصولها على سلاح نووي.
أما من زاوية الوضع الإستراتيجي العربي، فيمكن القول؛ إن كل الدول العربية شرقَ البحر الأحمر، والبحر الأبيض المتوسط واقعة في تقاطع النيران بين إيران وإسرائيل، شاءت أم أبت. ذلك أنها:
إما دول فيها قوى عسكرية وسياسية متحالفة مع إيران، وداعمة للقضية الفلسطينية، فهي متحفزة للاندماج في المعركة؛ نصرة لإيران ولغزة. أو دول غارقة في التبعية لإسرائيل، فهي غير بعيدة عن احتمال انتقام إيران وحلفائها، وقد سمعنا تهديدًا إيرانيًا لإحدى هذه الدول مؤخرًا. أو دول فيها قواعد عسكرية أميركية، فهي تخشى من تحوُّل أرضها – جرَّاء ذلك- إلى ساحة من ساحات هذه الحرب التي لا ناقة لها فيها ولا جمل. أو دول متاخمة لإسرائيل، فهي واقعة في شراك الجغرافيا السياسية، ولا تستطيع أن تنفك من آثار هذا التصعيد، مهما تكن مواقفها.
وبعض هذه الدول العربية قد جمعتْ أكثر من واحد من هذه الاعتبارات الأربعة. ويشير كل ذلك إلى الوضع الإستراتيجي الحرج للدول العربية الواقعة شرق المتوسط وشرق البحر الأحمر، فقد وقعت هذه الدول في تقاطع النيران بين إيران وإسرائيل. وإذا انزلقت الأمور إلى تصعيد أكبر بينهما، فستتحول هذه الدول ساحة لحرب لم تتخذ قرارها. وأسوأ هذه الدول وضعًا هي تلك التي جمعت بين الانحياز السياسي لإسرائيل والقرب الجغرافي من إيران، فهي منكشفة اليوم أمام القوة الإيرانية انكشافًا كاملًا، وقد اجتمع عليها بؤسُ الموقف الأخلاقي، وضعْفُ الموقف الإستراتيجي.
وأخيرًا يبقى السؤال الملحاح اليوم، هو: هل الهجوم الإيراني المباشر على إسرائيل مساء أمس بداية حرب ممتدة، متشعبة الأهداف، متعددة الأطراف؟ أم أن الأمور قد تعود إلى قواعد الردع المتبادل المعتادة بين إيران وإسرائيل، ولو إلى حين؟ جوابًا عن هذا السؤال، نقول: إن إيران ليست دولة متهورة، وهي لا تفكر بطريقة انتحارية، بل تتسم بالصبر الإستراتيجي. ولا يَتوقَّع العارفون بإيران أن تدخل حربًا اختيارية شاملة مع إسرائيل – ومن ورائها أميركا وكل الغرب- قبل تحقيق الحصانة الرادعة باستكمال برنامجها النووي.
لقد سجَّلت إيران مساء أمس سابقة مهمة، باختراقها الخطوط الحُمْر؛ ردًّا على اختراق إسرائيل تلك الخطوط. على أن هذا المشهد المثير الذي تابعناه -وتابعه كل العالم- هو الرد الإيراني المباشر فقط؛ أي الهجوم الذي لا سابق له من داخل الأراضي الإيرانية على إسرائيل. أما الرد الإيراني غير المباشر، وهو استهداف إيران لإسرائيل من خارج الأراضي الإيرانية، وبأيدي حلفاء إيران في لبنان والعراق واليمن، فهو أمر لم يتبيَّن مداه بعدُ. وقد يكون الرد الإيراني غير المباشر أكثر إيلامًا، وأقل تحفّظًا من الرد المباشر.
لقد برهنت إيران دائمًا على براعتها في الحروب غير المباشرة مع إسرائيل، سواء على الجبهة اللبنانية، أو الفلسطينية، أو على الجبهة اليمنية التي انضمت مؤخَّرًا إلى هذا المسار. ويدل الهجوم الإيراني على إسرائيل يوم أمس على أن إيران ليست جاهزة بعدُ لحربٍ مباشرة اختيارية مع إسرائيل، وأنها لن تخوض هذا النمط من الحروب المباشرة – في الأمد القريب- إلا إنْ فرضته عليها إسرائيل وحليفها الأميركي فرضًا. فهجوم إيران على إسرائيل أمس كان أقرب إلى الرسالة الرمزية ذات الأثر العسكري المحدود.
وليس في هذا القول ما يقلل من القيمة الإستراتيجية للهجوم على المدى البعيد، رغم محدوديته العسكرية الظرفية، إذ سيكون لهذا الهجوم أثر نفسي عميق على المجتمع الإسرائيلي، وعلى الحصانة النفسية للدولة الصهيونية والمجتمع الصهيوني. فبعد صدمة الهجوم البطولي للمقاومة الفلسطينية يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الذي اخترق خطوط الدفاع الإسرائيلية بشكل لا مثيل له، ها هي إيران تخترق حدود الدفاع الإسرائيلية -علنًا- بعد ستة أشهر من ذلك الهجوم، وتُظهر هشاشة هذا الكيان الذي رسَم لنفسه صورة زائفة، هي صورة القوة التي لا تُقهَر.

ولذلك يمكن القول؛ إن يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 ويوم 13 أبريل/نيسان 2024 سيدخلان التاريخ باعتبارهما يومين فقدتْ فيهما الدولة الصهيونية جزءًا مهمًا من ردعها، لا بسبب حجم الخسائر الإسرائيلية فيهما، بل بسبب هزِّ ثقة الصهاينة بأنفسهم، وتهشيم حصانة مشروعهم السياسي، وإحساس شعبهم -الملفَّق من أشتات الآفاق- بعدم الأمان والاطمئنان في الصميم، وتوهين إرادته وثقته في مستقبل هذه الدولة اللقيطة على أرض فلسطين.. وما الحرب إلا صراع إرادات في نهاية المطاف.

 

محمد مختار الشَنقيطي أستاذ الشؤون الدولية بجامعة قطر

نقلا عن الجزيرة 

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.