الشوباني يكتب-14-: هل نجح طوفان الأقصى في الإجهاز استراتيجيا على ” الحل الصهيوني” ل ” المس٥لة اليهودية” من المسافة الصفر؟
د الحبيب الشوباني
الأصول السياسية ل “الحل الصهيوني ” ل “المسألة اليهودية ” :
من دعوة “كرومويل” السياسية ..إلى دولة “هرتزل” اليهودية (2)
1. إذا كانت أصول الدعوة الدينية لفكرة “الوطن القومي لليهود” ألمانية بروتستانتية لوثرية Luthérienne ، فإن الأصول السياسية للوعد بتحقيق الفكرة بريطانية، وتُعزى للسياسي والقائد العسكري البريطاني “أليفر كرومويل Oliver Cromwell” (1599-1658) . حكم كرومويل بريطانيا بنظام جمهوري مؤقت بعد إعدامه للملك تشارلز الأول سنة 1650م، وكانت انجلترا وقتها محرمة على اليهود. وفي حروبه التي شنها على الهولنديين لاحظ الدور الذي يلعبه اليهود في اقتصاد هولندا، فقرر فتح البلاد في وجههم من جديد سنة 1655، ووجه لهم رسالة فيها شحنة اعتذار مضمر وتعاطف سياسي مع الاضطهاد المزمن الذي عانوا منه في بريطانيا في ظل الحكم الملكي، يقول فيها: “إن على الشعبين الجرماني (الألماني والهولندي) والأنجلوسكسوني أن يعملا بكل قوة على إعادة أبناء شعب الله المختار إلى أرض الميعاد”. وقد سار على خطى كرومويل في دعوته لتوطين اليهود في فلسطين دعاة كُثْرٌ، منهم “الليدي هستر لوسي ستانهوب Lady Hester Lucy Stanhope” (1776-1839)، التي كانت نشيطة في التبشير بوطن قومي لليهود في الفترة من 1804م و1819م. والليدي هستر امرأة مغامرة من طبقة النبلاء الانجليز هجرت وطنها واتخذت من جبل الدروز بلبنان مُقاما دائما لها حتى توفيت به. أسست الليدي هستر شبكة من العملاء يخدمون السياسة الاستعمارية البريطانية في المنطقة، وبَنَتْ لها نفوذا واسعا في بلاد الشام، واستطاعت التأثير في أحداث كبرى في المنطقة من ذلك دورها في ثورة الدروز على الحاكم القوي لمصر “محمد علي”.
2. أما “نابليون بونابارت Napoléon Bonaparte” (1821-1769) فقد اشتهر بندائه التاريخي في أبريل من سنة 1799م، والذي اعتبر فيه اليهود “ورثة أرض إسرائيل الشرعيين” ، وقد كانت لهذا النداء بعد عدة عقود أصداء واسعة لدى السياسيين في أمريكا أولا، حيث دعا الرئيس الأميركي “جون آدامز John Adams” (1735-1826) سنة 1818م إلى “استعادة اليهود لفلسطين وإقامة حكومة مستقلة لهم”؛ وثانيا في بريطانيا سنة 1839م، عندما أصدر رئيس الوزراء البريطاني ووزير الخارجية في نفس الآن “هنري جون تمبل Henry John Temple” – المشهور باسم “اللورد بالمرستون lord Palmerston” (1784-1865) – تعليماته للقنصل البريطاني في القدس “وليام يونغ”، يحثه فيها على منح اليهود في فلسطين حماية بريطانية خاصة تضمن سلامتهم وسلامة ممتلكاتهم وأموالهم.
3. سياسيا وتاريخيا، من المهم التوقف عند أصول نشأة إحدى أهم مقولات الحركة الصهيونية المؤسسة ل”الحل الصهيوني للمسألة اليهودية”، والتي تقول بأن فلسطين “وطن/أرض بلا شعب لشعب بلا وطن/أرض”. صاحب هذه المقولة تاريخيا هو “اللــورد شافتسـبري
Lord Shaftesbury”((1801-1885، وهو صاحب مقولة ثانية ممهدة للأولى، يقول فيها “إن أي شعب لابد أن يكون له وطن، والأرض القديمة للشعب القديم”، قبل أن ينحتها في صيغتها المشهورة، ويقدمها إلى صهره lord Palmerston (زوج شقيقته) كمشروع رؤية سياسية متكاملة لحل “المسألة اليهودية” قدمها هذا الأخير كمذكرة صهيونية بامتياز، في مؤتمر الدول الأوروبية المنعقد بلندن عام 1840 – عشرون عاما قبل ميلاد هرتزل Herzl !- وتم اعتمادها من قبل المؤتمرين بعنوانها التاريخي: “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”.
4. اللــورد شافتسـبري صاحب هذا الشعار الصهيوني هو زعيم حزب الإنجيليين، وهو المنظر العقائدي الذي يؤمن بأن اليهود كانوا عبر التاريخ شعباً من الغرباء المتكبرين عاشوا منبوذين بسبب انغماسهم في الرذائل الخُلقية واتصافهم بالعناد وكراهية الأغيار والكفر بالمسيح وبالإنجيل؛ ولذلك فهم يجسدون تاريخيا “خطيئة جماعية Collective sin” لا يجب الاعتراف بها في المجتمعات المسيحية إلا على مستوى الحقوق الفردية دون الجماعية؛ أما عند النظر إليهم كجماعة فيجب العمل على إبعادهم إلى فلسطين التي يعتقدون أنها أرض ميعادهم، وهو اعتقاد لا يتقاسمه معهم المسيحيون، لكنه يتقاطع مع اعتقادهم بكونه مقدمة ضرورية لعودة المسيح المخلِّص. لذلك نتج عن مؤتمر لندن التبنِّي الرسمي لمشروع Palmerston/ Shaftesbury، فبدأت بريطانيا على الفور (أولا) بخطوة “إحداث كومنولث يهودي في جنوب سوريا/ فلسطين التوراتية”؛ و(ثانيا) بتأليف البرلمان الإنجليزي لجنةً برلمانية سنة 1844مكلفة بالاشتغال على “إعادة أمة اليهود إلى فلسطين”؛ و(ثالثا) بتأسيس “الجمعية البريطانية والأجنبية للعمل في سبيل إرجاع الأمة اليهودية إلى فلسطين”، التي ناشدت الحكومة البريطانية العمل على إخضاع ما يعرف ب”فلسطين التوراتية” والتي تمتد من الفرات إلى النيل ومن المتوسط إلى الصحراء.
5. في “ضفة مصب الاستيطان اليهودي / فلسطين”، كانت التحضيرات تجري على قدم وساق بالتوازي مع ما يُحضَّر من مخططات في “ضفة منبع الاستيطان/أوروبا وأمريكا” للتخلص من اليهود. كانت هشاشة الدولة العثمانية الحامية للأراضي المقدسة في فلسطين في أوج تفاقمها، فتصاعدت أطماع الدول المسيحية لتفكيكها بتوظيف العمل القنصلي في القدس لهذا الغرض؛ فالفرنسيون استأثروا بحماية الكاثوليك، والروس بحماية الأرثودوكس، أما البريطانيون فقد دخلوا المنافسة القنصلية والتحضير للاستيطان الصهيوني من باب حماية اليهود، لأن القدس لم يكن فيها وجود تاريخي للبروتستانت. من اللافت أن قناصلة الدول المسيحية كانوا يهودا أو صهاينة متعصبين لفكرة “أرض الميعاد”. فقد أورد المؤرخ البريطاني الصهيوني “ألبرت مونتيفيوري هياسمونAlbert M.Hyasmon ” )1875 -1954) – عمل موظفًا مدنيًا ومؤرخًا، وشغل منصب كبير موظفي الهجرة في الانتداب البريطاني على فلسطين من عام 1921 إلى عام 1934- معطيات غزيرة في كتاب أصدره في لندن سنة 1939 بعنوان: “مراسلات القنصلية البريطانية في القدس بين سنوات 1838 و1914″، توضح جرأة السياسة البريطانية الاستعمارية في انتهاك السيادة العثمانية وتدخلها المباشر في شؤون يهود القدس الذين هم رعايا الباب العالي في إسطنبول؛ وأكد أن “حماية يهود فلسطين كانت أحد الاسباب الرئيسة وراء قرار إقامة اول قنصلية بريطانية في القدس سنة 1839 وتعيين أول قنصل فيها وهو “ويليام تانر يونغ William Tanner Young”.
6. بناء على مراسلات “تانر يونغ” الذي شغل هذا المنصب خلال الفترة (1839-1845)، فإن عدد اليهود في كل فلسطين وصور وصيدا بلبنان، لم يكن يتجاوز عشرة آلاف نسمة؛ لذلك كانت بريطانيا تكتفي بمتابعة شؤونهم من مدينة عكا بواسطة نائب قنصل يهودي يدعى “موسى إبراهيم”. أما أميركا فقد عيّنت الصهيوني المتعصب “واردر كريسون Warder Cresson” (1798-1860) كأول قنصل لها في القدس سنة 1844؛ وقد اشتهر كريسون بهوَسِه الديني بفكرة توطين اليهود في “أرض الميعاد” ثم باعتناقه اليهودية، وبزواجه من يهودية واتخاذه اسما عبرانيا جديدا (ميخائيل بوعز يسرائيل بن أفراهام)؛ كما اشتهر بمحاكمة تاريخية في أمريكا بعد اتهام زوجته الأمريكية وأبنائه له بالجنون إثر تخلُّصه من كل ممتلكاته في أمريكا، ووقْفِ جهوده وأمواله على دعم الاستيطان اليهودي في فلسطين، وقد مات ودفن بالقدس. وأما القائم بأعمال الشؤون الروسية في القدس فقد كان حاخاماً متخصصاً في الشريعة التلمودية.
7. “في فلسطين/ ضفة مصب نهر الاستيطان”، ومع بداية الهجوم القنصلي الموجَّه لخدمة مشروع “الوطن القومي لليهود” شعَر الأتراك بخطر القنصليات، فرفض السلطان العثماني منح بريطانيا الترخيص بإقامة قنصليتها في القدس، لكنه تراجع تحت تأثير الضغوط المنسقة لحكومات الدول المسيحية. أورد Albert M.Hyasmon في كتابه أن رسالة التكليف التي حدد بموجبها اللورد بالمرستون مهام القنصل كانت تتضمن بوضوح “منح الحماية لليهود” بشكل عام، فبدأ الأمر تدريجيا باليهود الأوروبيين القادمين للاستيطان في فلسطين، ثم توسّع ليشمل اليهود العثمانيين في إهانة علنية للسيادة العثمانية على مواطنيها. يقول M.Hyasmon تعليقا على هذا الأسلوب في استضعاف الدول الأوروبية للدولة العثمانية: “إن القوانين المعتادة في العلاقات الدولية لم تكن تُطبق في تلك الايام على نمط تعامل القوى الأوروبية مع تركيا. لهذا، فإن بريطانيا كانت تتعامل مع السلطان بطريقة لا يمكنها التعامل بها مع أي حاكم أوروبي آخر. وحتى لو لم يكن ضمن القانون الدولي فإنه حتى في الاعراف المُعتادة، لم يكن ثمة سابقة تشير إلى ان دولة أجنبية تأخذ على عاتقها حماية رعايا أو رعايا سابقين لدولة ثانية يعيشون في أرض دولة ثالثة”.
8. من المفارقات التاريخية لصور استضعاف الدول المسيحية للخلافة الإسلامية في مرحلة “مرضها وشيخوختها”، أن أوروبا التي عاش فيها اليهود جحيم الاضطهاد والمنبوذية والمذابح المتكررة قرونا متطاولة، صارت فجأة “حامية لليهود العثمانيين” حيثما وجدوا تحت حكم العثمانيين، وخاصة في مدينة القدس. حصلت هذه المفارقة الكبيرة التي شارك فيها اليهود أنفسهم، على الرغم من أنهم لم يتعرضوا في ظل الخلافة الإسلامية لأي ممارسات من قبيل ما عاشوه قرونا طويلة في جحيم “الجيتوهات” في كل المجتمعات المسيحية بدون استثناء، سواء في فرنسا أو روسيا أو بولندا أو ألمانيا أو بريطانيا أو رومانيا، والتي كان آخرها اضطهاد الحركة النازية مع هتلر في الحرب العالمية الثانية؛ بل على النقيض من ذلك، لقد شكلت دار الخلافة الإسلامية على الدوام ملجأ آمنا لليهود من الاضطهاد المسيحي كما حصل بعد موجة الهروب الكبير من إسبانيا والبرتغال، نتيجة مذابحهما الرهيبة نهاية القرن 15م بعد سقوط الأندلس، والتي عاشوا فيها عصرهم الذهبي في ظل الحكم الإسلامي الأوروبي.
9. تمهيدا لنشوء الحركة الصهيونية العالمية على يد هرتزل وشركائه، كانت بريطانيا تتعامل مع اليهود كجماعة وظيفية تخطط لتحقق بواسطتها أهدافا استعمارية بعيدة المدى، من منطلق أن بريطانيا كانت تمثل أكبر قوة تجارية وعسكرية عابرة للبحار، وأن السيطرة على الحجاز ومصر والعراق وبلاد الشام بثقلها الديني والحضاري وممراتها التجارية الحيوية، ضرورية لحماية طرق التجارة مع الهند، ولأنها مرشحة لتلعب أدوارا استراتيجية كبرى في صراعات النفوذ السياسي والملاحة التجارية، وهو ما يقتضي تسخير اليهود كرأس حربة في خاصرة المنطقة تساعد على منع اندماجها ووحدتها وتحولها إلى قوة إقليمية منافسة كما جاء في رسالة Lord Palmerston إلى سفير بلاده في نابولي سنة 1833: “إن هدف محمد علي الحقيقي هو إقامة مملكة عربية تضم جميع البلاد التي يتحدث أهلها اللغة العربية، وقد يكون هذا الأمر في ذاته لا ضرر منه، ولكنه يرمي إلى تقطيع أوصال تركية وهو ما لا نرضى عنه أبدا، وفضلا عن ذلك فإن أي ملك عربي، مهما تبلغ قوته، لن يكون أجدر من تركيا بالمحافظة على ما تحتله من طريق إلى الهند”.. وهو ما يؤكد تاريخيا وبشكل قاطع، أن ثمة تلازمًا وثيقًا بين المشروع الصهيوني في إقامة دولة يهودية في فلسطين وبين السياسات الاستعمارية للرأسماليات الغربية، كما سيتضح أكثر من تحليل منظور الحركة الصهيونية لحل المسألة اليهودية.
(يتبع في الحلقة الخامسة عشرة)