محمد بوزيدان
إن هذا الموضوع القديم الجديد، لم ينل حظه من النقاش العمومي على ما له من أهمية كبيرة وتأثير على الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي لكافة المواطنين، وكأن السلطات العمومية والأحزاب السياسية وعموم الساكنة سلمت واستسلمت للواقع الحالي.
أعترف أن ما سأكتبه في الأسطر المقبلة غير مبني على دراسات أكاديمية أو إحصاءات رسمية، بل هي انطباعاتي الشخصية وخواطري التي لاحظتها في الساحة السياسية الحالية.
الموضوع هو لماذا لا تشارك النخب والشباب والنساء في الحياة السياسية؟ ولماذا لا ينخرط المواطنون في الأحزاب؟ ولماذا تعرف نسب المشاركة في الانتخابات تدنيا مطردا؟
قد تبدو هذه الأسئلة للقارئ الكريم مكرورة ولا يجوز التطرق لها، فهي من باب تحصيل الحاصل، لأن الإجابة عنها معروفة منذ عقود، وقد تم التطبيع معها ولا أحد يشتكي أو يتبرم من ضعف المشاركة في الحياة السياسية. أكثر من ذلك، فالعديد من الفئات الاجتماعية قد حسمت في هذا الموضوع وانصرفت عنه للاهتمام بأمورها الشخصية، التي ترى أثرها المباشر على حياتها الخاصة، أما الانخراط في الحياة العامة ففيه مخاطر كثيرة لا أحد مستعد لدفع تكاليفها في عصر طغت فيه المادة وأصبح الخلاص الفردي مهيمنا على الكثير من العقول.
لا أود هنا أن أسوق النصوص الشرعية التي تحض على مخالطة الناس والصبر على أذاهم، وقضاء حوائجهم، وأن من مشى في حاجة أخيه كان خيرا له من الاعتكاف والصلاة والقيام. أو أن حسن تدبير الشأن العام هو أداة أساسية لتقدم الأمم، ومن لا يريد أن يكون المغرب في طليعة الشعوب المتقدمة! مثل هذه المحفزات موجودة ومبثوثة بكثرة في الكتب التي تعالج مثل هذه المواضيع.
لكن ما الذي دفع الناس إلى الاستقالة من الشأن العام، استقالة إرادية وطوعية، وهم يعلمون أن ابتعادهم وتنحيهم لن يمنع من انتخاب حكومة، وبرلمان، ومجالس بلدية وقروية، ستقرر في شؤونهم اليومية، وسيكون لقراراتها الانعكاس المباشر على معيشهم اليومي. كيف لهم أن يضحوا هذه التضحية الجسيمة مُسَلمين رقابهم للمجهول؟
لعل بعضهم لازال يتذكر سنوات الجمر والرصاص، وكيف تابع بأم عينيه جرجرة الكثير من مناضلي الأحزاب السياسية خاصة اليسارية إلى المنافي والسجون، وكيف تم تعذيبهم ومتابعتهم حتى بعد خروجهم من السجن. لا لذنب اقترفوه إلا لانخراطهم طواعية في فكرة نبيلة وحملهم رؤية إصلاحية أرادوا نشرها في مجتمعهم دون مقابل، فقط لأن أحلامهم تتوق لرؤية وطن أفضل.
البعض من ذلك الجيل الذي تابع تلك المشاهد والمآسي التي طالت الأصدقاء والأهل والأحباب، أقسم بأغلظ الأيمان ألا ينخرط في سياسية لا من قريب أو بعيد، وألا تطأ قدماه مقر حزب أو نقابة أو حتى جمعية.
أما الجيل الجديد الذي يلاحظ عليه متابعته للشأن السياسي واهتمامه به عبر منصات التواصل الاجتماعي، التي أسقطت الكثير من الرؤوس عقب الربيع العربي سنة 2011، وإعجابه الشديد بالأحزاب الغربية والفاعلين السياسيين في تلك الدول، والتي يستشهد في كثير من الأحيان بأقوالها وأفعالها. لكنه بالمقابل لا ينخرط فعليا في الحياة السياسية المباشرة عن طريق الأحزاب القائمة، بل قد يدعو للعكس.
للذين يرفضون المشاركة أو الاقتراب من السياسة أكثر من سبب يبرر قرارهم، وإذا أُعطيت لهم فرصة الإدلاء بدلوهم في الموضوع، أسهبوا في ذكر أخطاء وزلات المنتخبين والسياسيين، ولن يختاروا من القاموس السياسي إلا ألفاظا ومصطلحات تدل على تفضيل المصلحة الشخصية، وخيانة الأمانة، والاغتناء غير المشروع.. وهذه التهم الصحيحة لازمت العمل السياسي منذ عقود، وقد تفنن البعض في إلصاقها بالسياسية والمنتخبين وكأن المسؤولين الآخرين ملائكة الله في أرضه تتنزل عليهم الرحمات. فلماذا إذن استهداف الفاعل الحزبي فقط؟ ولماذا تكون الشجاعة في أعلى مستوياتها لدى البعض حينما يتعلق الأمر بانتقاد المنتخبين، لكنهم يبلعون لسانهم وينزوون للخلف حينما يتعلق الأمر بمسؤول آخر؟
هل الحل هو الانسحاب من المجتمع وترك الجمل بما حمل؟ لماذا إذن يشتكي الناس من الفاعل السياسي وهم لم يبذلوا أي مجهود في اختياره، فبعضهم غير مسجل في اللوائح الانتخابية، وبعضهم الآخر لا يصوت، والذين يصوتون يفعلون ذلك بالمقابل، وبعد هذا كله نسمع تبرمهم من غلاء الأسعار ومن وجود الحفر كما هو الحال بطنجة هذه الأيام.
لماذا لا نشهد تجارب رائدة فعلها البعض فيما سبق، حيث كان أهل الحي يختارون من يمثلهم مسبقا من الذين تتوفر فيهم شروط القوة والأمانة، ويقترحونه على هيئة سياسية ثم بعد ذلك يدعمونه إن هو نجح في الانتخابات ويواكبونه حتى لا يتم الاستفراد به.
العزوف السياسي والمجتمعي لن يحل المشاكل اليومية التي يعاني منها عموم الناس، ولن يحسن الدخل، ولن ينهض بقطاعي التعليم والصحة، ولن يوصل الشرفاء إلى مراكز القرار.
بل إن العزوف هو ما يطلبه المتلاعبون بالانتخابات الذين يعولون على شراء الأصوات، فكلما كان عدد المسجلين والمصوتين قليلا كلما سهلت عليهم المهمة، واستطاعوا التحكم في العملية كي يصلوا إلى مراكز القرار، وهذا ما يفسر نجاح مجموعة من الأسماء في البرلمان والجماعات رغم أنها لم تقدم أي شيء للمواطن الذي تمثله، لكنها تنجح كل مرة في تولي مسؤولية انتخابية.
ويبقى السؤال مطروحا إلى الأبد، هل من الضروري تنظيف الحياة السياسية من الممارسات التي تسيئ لها كي يلتحق الشرفاء للمشاركة فيها، أم أن على هؤلاء الشرفاء الالتحاق أولا ثم المساهمة في تخليقها. إن هذا التحدي يشبه ذلك السؤال الذي طرح منذ آلاف السنين، ما الذي جاء أولا الدجاجة أم البيضة؟ حينما نحسن الإجابة عليه والحسم فيه سيبدأ عدّاد صعودنا الحضاري لمنافسة الأمم المتقدمة.