محمد بوزيدان
مِن جامعة كولومبيا بنيويورك، التي تأسست سنة 1754م انطلقت احتجاجات الجامعات الأمريكية يوم 17 أبريل 2024، للتضامن مع غزة والتنديد بالإبادة الجماعية والتطهير العرقي الذي يمارسه الجيش الصهيوني على شعب أعزل إلا من إرادته القوية التي زلزلت أركان الجيش الذي سُمي زورا بأنه لا يقهر. هل هذه التظاهرات جديدة على هذه الجامعة ومثيلاتها المنتشرة فوق التراب الأمريكي؟ أبدا، بل يمكن القول إن العراقة العلمية لهذه الجامعة تضاهيها مبادراتها الإنسانية الراقية من طرف طلبة يمثلون زبدة الشعب الأمريكي. فقد شهدت جامعة كولومبيا وغيرها منذ أواخر ستينات القرن الماضي والسنين التي تلتها اعتصامات مماثلة، أدانت الجيش الأمريكي الذي شارك في حرب فيتنام، وقُتل من جنوده ستون ألفا، فالتحم طلاب الجامعات مع الأُسر التي طالبت بإرجاع أبنائها لأرض الوطن، سجل ذلك الإضراب الطلابي ضد حرب فيتنام مشاركة حوالي تسعمائة حرم جامعي ومدرسة ثانوية عام 1970.
ولم تتوقف الاحتجاجات الطلابية الأمريكية عند حرب فيتنام فقط، بل تعدتها للتنديد بنظام الفصل العنصري بجنوب إفريقيا، والمطالبة بالحقوق المدنية للسود بالولايات المتحدة الأمريكية التي أدت إلى إنهاء التمييز ضد الأمريكيين من أصل إفريقي.
إن هؤلاء الطلبة الذين يقومون بهذه المظاهرات اليوم ليسوا طلبة عاديين بل إنهم نخبة البلاد ومفخرتها، فهم ينحدرون من عائلات غنية تتولى المناصب الحساسة داخل البلد، اقتصاديا، واجتماعيا، وسياسيا، ومنهم مَن ديانته يهودية. أما الولوج لتلك الجامعات فهو ليس بالأمر الهين، بل ينبغي على الطالب أن يحصل على معدلات عالية تؤهله للدراسة في جامعة كولومبيا وهارفرد.. ومع ذلك عليه أن يدفع تكلفة الدراسة، فالجامعة ليست مجانية رغم الشروط الصعبة للولوج إليها، بل على الطالب أن يدفع ما يقارب ستين مليون سنتيم سنويا للدراسة في أحد فصولها، وكثيرا ما تُقدم الدولة الأمريكية قروضا للطلبة دون فوائد، يستمرون في تأديتها لسنوات طويلة بعد تخرجهم من الجامعة.
رغم ذلك يُضحي هؤلاء الشباب وغيرهم في الضفة الأخرى من المحيط الأطلسي في الجامعات الأوروبية، الذين لا تجمعهم مع الفلسطينيين أواصر الدين واللغة والحضارة، ويبتعدون عنها بآلاف الكيلومترات، بل منهم اليهودي الذي يناصر أبوه وأمه ـ اللذان يؤديان له مصاريف الدراسة ـ الاحتلال، ويرون بأم أعينهم التهديدات تتوالى عليهم من الكونغرس الأمريكي، ومن النواب الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء، الذين يصفون نضالات الطلاب بأنها تعادي السامية وأنهم سيتعرضون للطرد من الجامعات، ويرون كذلك جحافل رجال الشرطة والأمن تقتحم عليهم حرمة جامعاتهم لتعتقل الآلاف منهم وتغرمهم، ويتوصلون بإنذارات من إدارة الجامعة لتخبرهم بإمكانية الطرد إن استمروا في الاحتجاج، كل هذا مدفوع باللوبيات الصهيونية وبمجموعات الضغط التي لها نفوذ كبير في الأوساط السياسية، والتي تمتلك قدرة مالية هائلة، وعلى رأسها الأيباك التي تركز عملها على أعضاء الكونغرس وتمول حملاتهم الانتخابية، وتواكبهم في دوائرهم المحلية بتسهيل كافة الإجراءات التي تزيد من شعبيتهم وتضمن انتخابهم من جديد، ومعها العشرات من الجمعيات التابعة لها المنتشرة في عموم التراب الأمريكي. رغم ذلك يتصدى هؤلاء الطلبة الشجعان ومعهم أساتذتهم، لكل هذا الضغط ويقابلونه بضغط أكبر، فلا يكتفون بالمظاهرات والاعتصامات، بل يطلبون من جامعاتهم الغنية إيقاف أي تعاون علمي أو أكاديمي مع الجامعات والمعاهد الإسرائيلية، خاصة تلك المتعلقة بتطوير الأسلحة، وبالفعل تراجعت العديد من الجامعات عن التعاون والتنسيق العلمي مع مثيلاتها في إسرائيل. لكن بعضها لازال مصرا على إتمام عمله، ففي معهد ماساشوستس للتكنولوجيا الدقيقة، تجري أبحاث لمصلحة وزارة الدفاع الإسرائيلية وبتمويل منها بلغ مقداره 11 مليون دولار منذ سنة 2015، في أبحاث أبرزها مشروع لتحسين أداء المُسيرات العسكرية الإسرائيلية في تعقب الأهداف المدنية بغزة، ولم تتراجع هذه الجامعة لحدود الساعة عن هذا التنسيق الإجرامي الذي يساعد في استهداف المدنيين العُزل.
تملك هذه الجامعات أوقافا مالية كبيرة، فرصيد جامعة هارفرد المالي يزخر بـ 50 مليار دولار، يذهب جزء منه في الأبحاث العلمية مع إسرائيل، لذلك تحرص اللوبيات الصهيونية على عدم المساس بهذه الأبحاث، وتسعى لتُشيطن نضالات الطلاب بإدخالها عنوة في إطار معاداة السامية، ومن لم يخضع لذلك يكون مصيره الطرد والتنكيل والتشهير. وهو ما حدث لرئيسة جامعة هارفرد، كلودي غاي، حيث تنحت عن منصبها جرّاء الضغوط والانتقادات التي تعرضت لها لاعتبارها المظاهرات ضد إسرائيل داخل الحرم الجامعي تدخل ضمن نطاق “حرية التعبير”.
إن صمود المقاومة في غزة وعدالة القضية الفلسطينية، هو المحرك الرئيسي لكل تظاهرات العالم، التي وضعت الديمقراطية الغربية على المحك، والتي ما فتئت تعطي الدروس لدول العالم الثالث في حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية واحترام الرأي الآخر، وتنشر البيانات تلو الأخرى واستطلاعات الرأي ومؤشرات الديموقراطية، التي تعتبرها فرصة لإملاء التوجهات السياسية والاقتصادية على تلك الدول الغارق بعضها في الانتهاكات الحقوقية.
إن هذه الحرب أسقطت قُدسية إسرائيل في عدد كبير من الدول الغربية، وجعلت من أسطورتها ـ معاداة السامية ـ أسطورة مشروخة، لا يؤمن بها أحد، بل فطنت أجيال الشباب في الدول الغربية بأنها مدخل تاريخي لإطلاق يدها للفتك بالفلسطينيين مدعمة بأعتى جيوش العالم، وكذا بالأجهزة الاستخباراتية من كافة الدول الغربية.
إن إسرائيل اليوم خسرت الرأي العام والأجيال المقبلة في أوروبا وأمريكا، وخسرت معها التعاطف الدائم الذي تحيطها به المجتمعات الغربية، والحاضنة الاجتماعية والمالية التي تمولها وتدفع بها كي تواجه الدول العربية والإسلامية منذ 1948.
لكن علينا نحن كعرب ومسلمين أن نعمل لتأبيد هذه الوضعية الحالية، وزيادة اتساع الشرخ القائم بين الأطروحة الصهيونية والدول الغربية، بتكثيف التواجد والدعم لجمعيات الطلبة العرب والفلسطينيين بالجامعات الغربية، وتفعيل دور السفارات والقنصليات للتأثير على ميزان القوى داخل الكونغرس الأمريكي، والتواصل مع البيت الأبيض الذي تنتظره انتخابات رئاسية في شهر نونبر المقبل والتهديد بعدم التصويت على جو بايدن. إننا أصحاب القضية ويقع على عاتقنا نصرتها حكاما ومحكومين.