أسفرت نتائج الانتخابات التشريعية الفرنسية، عن فوز تحالف أحزاب اليسار في انتخابات مبكرة، ففي الوقت التي كانت البلاد تترقب مدا يمينيا متطرفا في الدورة الثانية من الانتخابات، فوجئت باختراق لتحالف اليسار متقدما على كل من معسكر الرئيس إيمانويل ماكرون الذي حل في المرتبة الثانية، ليأتي اليمين المتطرف المعروف بمعاداته للمسلمين وللمهاجرين في المرتبة الثالثة.
pjd.ma، تواصل مع الخبير في العلاقات الدولية أحمد نورالدين، لتفسير هذا التحول في الانتخابات الفرنسية، حيث أكد أن الدور الثاني من الانتخابات البرلمانية الفرنسية شكل مفاجأة لكل المتابعين للحملة الانتخابية وللأزمة السياسية التي دخلت فيها فرنسا بعد المغامرة التي أقدم عليها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حين حل الجمعية العامة على خلفية فوز أقصى اليمين في الانتخابات الأوربية للتاسع من يونيو.
وأوضح نور الدين في تصريح خص به الموقع، أنه بعد أن تصدر التجمع الوطني اقتراع الدور الأول، انقلبت النتائج رأسا على عقب ليصبح حزب “مارين لوبين” في المرتبة الثالثة وتكتل الرئيس ثانيا، بينما عادت الصدارة للجبهة الشعبية الجديدة التي تكتلت فيها أربعة أحزاب يسارية بزعامة “فرنسا الأبية”.
تحالف ضمني وتخويف
وأبرز الخبير في العلاقات الدولية، أنه من بين أهم العناصر التي يمكن أن نفسر بها الانقلاب في التصويت، يأتي التحالف الضمني بين التكتل الرئاسي “جميعا” وتكتل اليسار، حيث أعلن بوضوح تام زعيم فرنسا الأبية منذ اللحظات الأولى لظهور نتائج الدور الأول، أن مرشحي تكتل اليسار سيتنازلون عن ترشيحاتهم في الدوائر التي يحتلون فيها المكانة الثالثة، ودعا كل مؤيدي الجبهة الشعبية الجديدة إلى عدم إعطاء أي صوت “للتجمع الوطني” بقيادة بارديلا، وهذا الموقف المبدئي بحسب نور الدين، هو ما أعطى الأفضلية للتكتل الرئاسي في أزيد من 80 دائرة لم تكن له حظوظ للفوز فيها، ليحصد في المجموع حوالي 168 مقعدا، رغم أن استطلاعات الرأي ومؤشرات الدور الأول لم تكن تعطيه أكثر من 80 مقعدا في المجموع النهائي للدورين الأول والثاني.
وفي المقابل، يوضح نور الدين، كانت دعوة التكتل الرئاسي بقيادة الوزير الأول غابريال أطال، فيها انتقائية وغموض وانتهازية أيضاً لأنها دعت إلى تنازل مرشحيها في الدوائر التي يحتلون فيها المرتبة الثالثة ولكن دون إعطاء أصواتهم لمرشحي “فرنسا الأبية” بزعامة جان لوك ميلانشون، وهذا ما حرم تكتل اليسار من عدة مقاعد، وهو ما يفسر تراجع الجبهة الشعبية عن عتبة المائتي وأربعين مقعداً التي كان من المفترض الحصول عليها حسب مؤشرات الاقتراع الأول وحسب استطلاعات الرأي.
وأردف المتحدث ذاته، أنه رغم هذه الطعنة في الظهر فقد تصدر تكتل اليسار نتائج الانتخابات بحوالي 182 مقعداً.
كما أشار الخبير في العلاقات الدولية، إلى حملة التخويف واسعة النطاق التي شنتها كل وسائل الإعلام الفرنسية ضد اليمين المتطرف، وفي بعض الأحيان بشكل غير مبني على أسس حقيقية، وهو ما دفع بالعديد من الفرنسيين الذين لم يشاركوا في الدور الأول من الانتخابات إلى المشاركة بكثافة في الدور الثاني، حيث سجلت أرقام قياسية في المشاركة لم تشهد فرنسا مثلا لها منذ الثمانينيات من القرن العشرين، مضيفا أنه “حتى الفرنسيون الذين كانوا في عطلة صيفية صوتوا بالوكالة، حيث تجاوز عدد وكالات التصويت مليونين ونصف المليون وهو أيضا رقم قياسي خلال أربعين سنة الماضية”.
سيناريوهات تشكيل الحكومة
وحول الآفاق المفتوحة أمام فرنسا في ظل غياب أغلبية مطلقة لأي طرف، قال نور الدين إنه من الناحية النظرية الصرفة هناك عدة سناريوهات، يأتي في مقدمتها الخيار الديمقراطي المتمثل في تعيين زعيم تكتل اليسار أو من يرشحه هذا التكتل وزيرا أولاً.
وأوضح أن هذا الخيار يعتبر عرفا دستوريا يرقى إلى مكانة القاعدة الدستورية التي تنظم العلاقة بين السلطات منذ تأسيس الجمهورية الخامسة، مبرزا أنه من الناحية المنطقية يفترض أن يعين الوزير الأول من الجبهة الشعبية الجديدة، المتصدرة لنتائج الانتخابات، قبل 18 يوليوز الحالي، تاريخ الجلسة الافتتاحية للبرلمان الجديد، مُلفتا إلى أنه لا توجد مادة في الدستور الفرنسي تحدد أجلا معينا للرئيس، وهذا من العيوب الواضحة لدستور الجمهورية الخامسة التي أظهرتها هذه الأزمة غير المسبوقة منذ 1958 يقول نور الدين.
وأبرز أن هذا السيناريو لديه معيقات موضوعية، مشيرا إلى عدم حصول تكتل اليسار على الاغلبية المطلقة، أي 289 مقعدا من أصل 577 التي تشكل الجمعية الوطنية الفرنسية.
واستدرك الخبير قائلا إنه “يمكن تجاوز هذا العائق لأن الحكومة الحالية التي يقودها غابريال أطال لا تتوفر هي الأخرى على أغلبية مطلقة، ومع ذلك استطاعت أن تحكم وأن تمرر أحيانا قوانين بدعم من اليمين المتطرف كما هو الشأن بالنسبة لقانون الهجرة مثلا”، إذن لا شيء يمنع أن تتكرر تجربة حكومة بأغلبية برلمانية نسبية وليست مطلقة مع الجبهة الشعبية الجديدة يؤكد المتحدث.
وبيّن أن هناك معطى آخر يدعم هذا السناريو، وهو أنه للحصول على أغلبية أصوات لإسقاط حكومة اليسار عند تشكلها، ينبغي أن يتحالف تكتل الرئيس الفرنسي “جميعا” مع اليمين المتطرف، وهذا سناريو سوريالي بحسب نور الدين، بالنظر إلى أن تحالف الرئيس ماكرون حصل على الرتبة الثانية بفضل تنازل اليسار عن منافسته في 80 دائرة، وبفضل تشكيل هذا التحالف غير المعلن لسد الطريق أمام صعود اليمين المتطرف، فكيف سيقنع الناخبين الفرنسيين بالتحالف مع ذات اليمين المتطرف، سيكون ذلك انتحارا سياسيا.
ومع ذلك هناك سناريوهات أخرى يضيف نور الدين، ولكنها تقتضي انشقاق حزب أو اثنين من تحالف اليسار المكون من أربعة أطراف، الحزب الاشتراكي والحزب الخضر وحزب الشيوعي وفرنسا الأبية، وينضما إلى تكتل الرئيس لتشكيل أغلبية ضد فرنسا الأبية بزعامة ميلانشون، وهذا سيشكل بحسبه انتحارا آخر لأنه سيخون الناخب الفرنسي الذي صوت لبرنامج محدد ومرقم قدمته الأحزاب الأربعة تحت مظلة الجبهة الشعبية الجديدة.
مناورات الرئيس ماكرون
غير أن نور الدين جدد تأكيده على أن كل شيء ممكن في عالم السياسة وإن كان الثمن السياسي سيكون باهضا قد يصل إلى موت الأحزاب التي ستقدم على مغامرات ضد إرادة ورسائل الناخبين الفرنسيين الذين عبروا بوضوح عن رفضهم لسياسة الرئيس ماكرون وتحالفه في السلطة، كما عبروا عن رفضهم لليمين المتطرف في الدور الثاني، مستدركا “الثابت الوحيد في التصويتين هو تأكيد الثقة في تكتل اليسار”.
وخلص بالقول إلى أن الرئيس ماكرون بدأ فعلا في مناوراته السياسية لتعطيل خيار الوزير الأول من تكتل اليسار أو على الأقل تأجيل هذا الخيار ربحا للوقت بدعوى عدم إرباك تنظيم الألعاب الأولمبية التي ستختتم منتصف شهر غشت، مشيرا إلى أن الخطوة الأولى في هذا الاتجاه هي رفض ماكرون استقالة الوزير الأول غابريال أطال، وملفتا إلى أنه قد يلجأ في خطوة ثانية إلى حكومة تكنقراط كمرحلة انتقالية.
غير أن هذه الخيارات يوضح الخبير في العلاقات الدولية، قد تفجر النظام السياسي الفرنسي وتشل مؤسسات الدولة، وفي غياب إمكانية دستورية لحل البرلمان قبل مرور سنة، قد يؤدي الشلل إلى استقالة الرئيس وتنظيم انتخابات رئاسية مبكرة، وربما يفتح المجال لميلاد الجمهورية السادسة بدستور جديد.
رابط المشاركة :
شاهد أيضا