اليعقوبي يكتب: الإسلاميون بالمغرب: تجربة جديدة للتكيف مع الأوضاع وللدفاع عن الديمقراطية
عبد الرحمن اليعقوبي
تقديم:
سيكون عرضنا هنا منصبا على تجربة الإسلاميين بالمغرب في تعاطيهم مع الأوضاع السياسية في هذه الفترة العصيبة التي تعيشها الحركة الإسلامية في علاقتها بالفرقاء السياسيين الآخرين وفي علاقتها بالأنظمة السياسية في العالم العربي. ويبدو أنه من الواجب القيام بدراسات كثيرة ترصد هذه التجربة، أولا لأهميتها، وثانيا علها تكون نموذجا يمكن أن يحتدى في العالم العربي، نتيجة لنجاحها في الاستمرار، وقدرتها على الوصول إلى تدبير الشأن العام، سواء منه الحكومي أو الترابي. لهذا سنحاول في هذا المقال أن نجيب عن سؤال يطرحه الكثير، داخل المغرب أو خارجه وهو: كيف استطاع الإسلاميون بالمغرب الصمود في وجه العاصفة والاستمرار في الحكم الى هذه اللحظة؟
سننطلق في الإجابة عن هذا السؤال من أطروحة نرى أنها تفسر وضع الإسلاميين بالمغرب وهي القول بأن ذلك يعود من جهة للوضع السياسي الخاص الذي يميز النظام السياسي والدولة بالمغرب، ويعود من جهة أخرى إلى قدرة خاصة تميز بها الإسلاميون بالمغرب، والتي تتجلى في قدرة كبيرة على التكيف والتفاعل، سواء مع الدولة أو مع الفرقاء السياسيين، وهذا بناء على تأويل خاص، ولفكرة فقدتها كثير من الحركات الإسلامية الأخرى في العالم العربي وهي أن الحفاظ على الاستقرار، ونبذ كل طرق المواجهة مع الدولة، والتنازل عند الاقتضاء، والمشاركة الفاعلة في الشأن السياسي، هي شروط ضرورية من أجل الاستمرار. وكل هذا انطلاقا من تفسير مقاصدي للنصوص الشرعية. لنشر هنا أن هنالك في هذا الأمر تشابها في كثير من النواحي مع الإسلاميين بالأردن، والذي بدوره يعرف تشابها في كثير من السمات فيما يخص النظام السياسي.
لشرح هذه الفكرة والبرهنة عليها سنحاول البحث عن العناصر التي تميز من جهة الوضع السياسي في المغرب والذي ساهم في وصول الإسلاميين، ومن جهة أخرى سنحاول قراءة تجربة الإسلاميين في المغرب سواء من خلال الأبعاد الفكرية أو السياسية.
أولا: الإسلاميون بالمغرب : من هم؟
الاسلاميون في المغرب هم مجموعة من الجمعيات والحركات التي ظهرت في تواريخ مختلفة، وعلى الخصوص منذ بداية السبعينات. تختلف الأهداف المحددة للأنظمة الأساسية لكل منظمة، وتخضع كلها في نشاطها إلى قانون الحريات العامة، والذي يسمى بظهير الحريات والذي وضع بعد الاستقلال، في سنة 1958 ، وهو يضع النظام العام الذي يجب أن يحكم تأسيس المنظمات الأهلية والجمعيات. وكان هذا القانون مكسبا في وقته إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الميل العام للمرحلة، والذي كان يعرف طغيان مد الحزب الوحيد وتأميم المنظمات الأهلية وجعلها موازية للحزب في أغلب أقطار العالم العربي.
معنى هذا أن التعددية هي توجه عام عرفه المغرب سواء في الجانب المتعلق بالجمعيات أو الأحزاب، وهذا ما سمح بنوع من الحرية في التأسيس للجمعيات. غير أن عمل الجمعية لا يتسع الى الحد الذي يسمح للجمعية بالمشاركة في الأنشطة السياسية التي هي من مهام الأحزاب. ومع ذلك، ولارتباط كثير من الجمعيات بطريقة غير مباشرة بالأحزاب سواء كان هذا الارتباط ذا بعد تنظيمي أو أيديولوجي ، فإن التداخل بين السياسي والجمعوي في عمل كثير من الجمعيات كان غير واضح. وهذا ما سمح بمساحة كبيرة تنشط فيها كثير من الجمعيات، التي قد تعبر عن مواقف ذات بعد سياسي. وقد عرف اليسار في السبعينات امتداده الفكري في جزء كبير منه إلى انتشار الجمعيات ذات التوجه اليساري وعملها النشط.
في هذا الجو السياسي والقانوني نشأت الجمعيات والمنظمات التي تتأسس على أيديولوجية إسلامية، أو التي تقوم بأنشطة دينية ودعوية. ليس في القانون ما يمنع هذا. ويمكن تقسيم هذه الجمعيات والمنظمات إلى فئتين: فئة تنحصر مهامها فيما هو دعوي واجتماعي، وجمعيات يتسع نشاطها إلى تعابير سياسية من مرجعية إسلامية وإن لم تكن هي في حد ذاتها أحزابا سياسية. انتشرت هذه الجمعيات وكثرت على الخصوص في بداية السبعينيات من الفئتين معا. ولأن المناخ السياسي في المغرب كان يعرف صراعا محتدما بين القوى السياسية فيما بينها، أو فيما بينها وبين الدولة فقد أدى هذا طبيعيا إلى أن تنخرط هذه المنظمات الإسلامية بشكل مباشر أو غير مباشر في هذا الصراع السياسي. والمثال الذي نسوقه هنا هو ظهور جمعية الشبيبة الإسلامية والتي فتحت جبهة الصراع في البداية مع اليسار. وهذه الجمعية كانت تخضع لقانون الجمعيات، ولكنها في نفس الوقت تتخذ مواقف سياسية معينة مما يقع في البلاد. وفي بداية الثمانينيات نشأت جماعة أخرى لها نفس الطابع وهي جماعة العدل والإحسان.
الغاية من هذا العرض المختصر للواقع السياسي المغربي بعد الاستقلال هو الوصول إلى نتيجة هامة وهي: إن وضع الإسلاميين بالمغرب لا يرجع في جزء كبير منه إلى دهاء وقدرة سياسية وممارسة خاصة فقط، هذا أمر موجود ولا يجب أن نجادل فيه، ولكن الأمر يرجع أيضا إلى طبيعة النظام السياسي وبنية الدولة من الناحية التاريخية وأسس المشروعية، وأيضا من الناحية الدستورية، وهذا ما أعطى للإسلاميين وغيرهم القدرة على الفعل الحر عموما ( الحرية هنا مقارنة مع باقي الأقطار وداخل الإقليم وليس الحرية كما هي موجودة في كثير من البلدان الغربية). وبالنسبة للإسلاميين فهنالك ميزة خاصة إضافة إلى الجانب القانوني والسياسي وهو أن بنية الدولة تقوم على الدين، باعتبار الملك هو قبل كل شيء أميرا للمؤمنين. فالإسلام ليس منطلقا مرجعيا لبعض الجمعيات التي تنشط في ميدان الدعوة فقط، بل إنه مرجع وأيديلوجية للدولة نفسها. لهذا لم يعرف المغرب وإلى اليوم مواجهة وصراعا غايته الاستئصال على أساس طائفي، كما عرف ويعرف إلى اليوم في كثير من أقطار العالم العربي. فجماعة مثل العدل والإحسان، والتي تعارض النظام صراحة تملك كثيرا من فرص النشاط، وليست هنالك سياسة ممنهجة لاستئصالها إلى اليوم. وكل هذا يعني بالنسبة إلينا أن طبيعة النظام المغربي كانت عاملا حاسما فيما حققه الإسلاميون من نجاح سياسي إلى اليوم. وهي حقيقة لا يجب أن نمر عليها هكذا مركزين فقط على القدرة التي امتلكها الإسلاميون للتكيف مع الأوضاع والمتغيرات. بل يمكن القول بأن طبيعة النظام قد سمحت للإسلاميين بالتفكير الهادئ فيما يجب القيام به. وإذا أضفنا إلى هذا القدرة التنظيرية والعملية التي ميزت الإسلاميين بالمغرب فسنفهم بسهولة التجربة السياسية للإسلاميين بالمغرب.
خلاصة القول هي أن الإسلاميين بالمغرب هم مجموعات وليست كيانا واحدا، وهي أنظمة متعددة وليست نظاما واحدا، وهي مشاريع كثيرة وليست مشروعا واحدا.
لكننا سنعود ونذكر بجمعية الشبيبة الإسلامية التي كانت تجربة فارقة في الوجود السياسي للإسلاميين باعتبارهم كيانا سياسيا متميزا. فقد نشأت هذه الجمعية في بداية السبعينات وتطورت إلى أن توحدت مع جمعيات أخرى في جمعية جديدة تسمى: حركة التوحيد والإصلاح ، والتي انبثق عنها حزب العدالة والتنمية الحالي، والذي استطاع ترؤس الحكومة المغربية منذ 2012 ولمدة فترتين انتدابيتين. ولا يسع المجال هنا لتتبع خطوات هذا التطور منذ السبعينات وإن كنا من المشاركين المباشرين فيه والعارفين بكثير من تفاصيله.
ثانيا: الحركة الإسلامية بالمغرب: إشارات تاريخية
تنبغي الإشارة هنا إلى أننا سنقتصر في دراسة حالة الحركة الإسلامية على حركة واحدة وهي حركة التوحيد والإصلاح لكونها هي الحركة التي دخلت معترك السياسة من خلال حزب الحركة الشعبية الدستورية والذي غير اسمه فيما بعد ليصبح حزب العدالة والتنمية المغربي.
في بداية الثمانينات ( أتجاوز هنا التواريخ بدقة لأن غرضنا ليس تأريخيا محضا ) انفصل كثير من الأعضاء والمجموعات عن الشبيبة الإسلامية وأسسوا كيانا جديدا بتوجهات جديدة أهمها : الانخراط في الشأن العام الدعوي والسياسي، ونبذ الصراع مع الدولة والاعتراف بثوابت الدولة، والتي أهمها مبدأ البيعة الذي يؤسس إسلامية الدولة على المستوى الدستوري وعلى مستوى المشروعية. وقد أعطت هذه المجموعة لنفسها إسما وهو ” الجماعة الإسلامية”، والتي تطورت فيما بعد إلى حركة الإصلاح والتجديد. أصدرت هذه الحركة ميثاقا وإعلانا للعمل تحدد فيه مبادئها وطرق عملها.
ومن أهم هذه المبادئ هو أن عمل الحركة يتسع إلى ما هو تربويي ودعوي واجتماعي وثقافي ونقابي وسياسي وإعلامي… وهذا في أواخر الثمانينات، وصدرت ورقة في الموضوع. ومعنى هذا هو أن التعبير عن المواقف السياسية أصبح من مهام الحركة. وفي بداية التسعينات قدمت الحركة طلبا لإنشاء حزب سياسي. يعني هذا أن النشاط السياسي أصبح من المهام التي تقوم بها حركة إسلامية في المغرب. كانت هنالك تجارب سابقة في بعض البلدان الإسلامية وحتى في المغرب، فهنالك حزب سياسي قديم يتأسس على مرجعية إسلامية هو حزب الاستقلال. غير أن هذا الطلب يعتبر الأول في شكله في المغرب باعتباره صادرا عن تنظيم دعوي جديد. رفض الطلب. ليس هذا الطلب فقط ، فقد رفض طلب آخر مثله وفي نفس الوقت لمجموعة أخرى من الجمعيات الإسلامية التي كانت تتحد في تنظيم اسمه: “رابطة المستقبل الإسلامي”، والتي قدمت بدورها طلبا لإنشاء حزب سياسي. وهذه الرابطة هي التي ستتحد مع حركة الاصلاح والتجديد سنة 1996 ويؤسسان معا حركة التوحيد والإصلاح. يعني هذا أنه وإلى حدود بداية التسعينات لم يكن مسموحا للحركة الإسلامية أن تمارس العمل السياسي مباشرة. غير أن الأمر سيتغير بعد فترة قصيرة وبعد التوافق على دستور 1996، حيث سمحت السلطات للحركة التوحيد والإصلاح بالانخراط في العمل الإسلامي تحت مظلة حزب سياسي قائم هو: ” حزب الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية”، والذي كان يرأسه المرحوم الدكتور عبد الكريم الخطيب، وهو شخص مقرب من القصر. ويعود بنا هذا إلى التأكيد على الفكرة التي أشرنا إليها سابقا وهي أن السياق السياسي وطبيعة الدولة في المغرب قد ساهمت جذريا في نشأة وتطور العمل السياسي بالمغرب. فقد ارتبط انخراط الحركة الإسلامية في العمل السياسي الحزبي ببداية بوادر انتقال الحكم ومشاركة المعارضة اليسارية في الحكومة. وهنا تكون الحركة الإسلامية طرفا في الحفاظ على التوازنات السياسية والاجتماعية التي يقوم عليها استمرار الدولة في المغرب على مر التاريخ .
لكن هذا لا يكفي وحده يالطبع لفهم مسار حركة التوحيد والإصلاح وموقفها السياسي . لقد استفادت من مجموع التجارب التي عرضت الحركات الإسلامية في العالم العربي إلى سياسة الاستئصال ودفعتها إلى المواجهة مع الدولة. وتجربة سوريا وتونس والجزائر في بداية التسعينات ليست عنا ببعيد في وقتها، وإن كان التصور الوسطي للحركة قد تبلور في صورته العامة قبل بداية أحداث الجزائر. ولعل ما وقع بتونس وسوريا وليبيا لم يكن غائبا عن نظر الحركة الإسلامية بالمغرب.
الخلاصة هي: إن كل هذه المحطات كانت رصيدا استفادت منه حركة التوحيد والإصلاح خصوصا، والإسلاميون بالمغرب عموما، من أجل تقديم تجربة أرادوها متميزة ونموذجا لما يمكن أن يقوم به الإسلاميونمن أجل التعاون الممكن مع الأطراف الأخرى، ومن أجل تجنيب البلاد حمامات الدم التي عرفتها بعض الأقطار الإسلامية الأخرى.
ثالثا: حزب العدالة والتنمية: مرتكزات العمل الفكرية والسياسية
قدمنا فيما سبق بعض أوجه التطور في الرؤية والعمل والتي أطرت تجربة الإسلاميين في ممارسة السياسة بالمغرب. ويمكن أن نقول هنا بأن الأسس التي توجه حزب العدالة والتنمية لا تنفصل عن ماضي التجربة في حركة التوحيد والإصلاح. لهذا لاتزال هنالك صورة مرسومة في ذهن المراقبين في أن هذا الحزب ليس إلا واجهة لحركة التوحيد والإصلاح. وهو حكم قد يكون صادقا في جوانب منه، كما قد يكون خاطئا إذا ما دققنا النظر في الممارسة اليومية. لهذا طرحت قضية ما يسمى بالفصل والوصل في أدبيات حركة التوحيد والإصلاح، والتي مضمونها هو: وضع الحدود بين عمل الحزب وعمل الحركة. وهي نفس القضية التي طرحت لذى الحركات الإسلامية الأخرى، وكان التعامل معها محددا في بعض الأحيان لصور النجاح والفشل.
فهي نفس ما طرح عند الحركة الإسلامية بتونس ومصر والجزائر وغيرها. وكان تعامل الإسلاميين بالمغرب مع هذا الأمر تعاملا خاصا. لقد ضبطت عناصر الوصل في وحدة المشروع، وفي التوجهات العامة التي تحدد الإطار المرجعي للعمل والمتمثل خصوصا في المرجعية الإسلامية، وأسلوب الشورى في اتخاذ القرار، ومجموع القيم الناظمة والمحددة للدين الإسلامي، ولكن الفصل كان فيما دون ذلك. فللحزب قيادته وهيئاته المقررة، وللحركة قيادتها وهيئاتها التقريرية، ولا يتخذ أحد الطرفين قراره بالنيابة عن الآخر، ولا يتدخل طرف في الطرف الآخر. إضافة إلى هذا فقد حددت وظيفة الحزب في المنافسة السياسية، أما الحركة فقد انحصر دورها فيما هو دعوي، وتربوي، وتكويني. فمن أراد العمل السياسي فليذهب إلى الحزب، أما من رأى أنه يميل فقط إلى ما هو دعوي وتربوي فليذهب إلى الحركة. ومن يقوم بالدورين معا فيجب عليه أن يحترم الأنظمة الداخلية لكل طرف يعمل فيه، يخضع للهيئات السياسية داخل الحزب، ويخضع للهيئات الدعوية والتربوية داخل الحركة. وكما يظهر ذلك فإن هذه القضية هي جد معقدة مما جعل كثيرا من الإسلاميين عبر أقطار العالم العربي عاجزين عن حلها، فكانت في بعض الأحيان مصدرا لكثير من المشاكل التنظيمية والقرارات السياسية. وتجربة الإخوان المسلمين هنا ليست عنا ببعيد.
لكل هذا سنجد أن المرتكزات الفكرية لحزب العدالة والتنمية هي نفسها التي تبلورت داخل حركة التوحيد والإصلاح، وهو ما سميناه بوحدة المشروع، بمعنى أن المنطلقات الفكرية الإسلامية والتي هي أس العمل لا تتغير سواء في الممارسة الدعوية أو السياسية. يمكن إجمال هذه الأسس في العناصر التالية:
1 ـ المرجعية الإسلامية
حزب العدالة والتنمية ليس حزبا دينيا، بل هو حزب سياسي بمرجعية إسلامية ومعنى ذلك أن يكون الإسلام منطلقا وإطارا لمختلف الاختيارات والاجتهادات السياسية وللمشاريع المجتمعية، ومنظومة القيم الموجهة هي منظومة الإسلام بثوابته ومقاصدة. والحزب حين يؤكد انطلاقه من المرجعية الإسلامية فإنه لا يعتبر نفسه وصيا على الإسلام أو ناطقا باسمه، لكنه يعتبر أن الانطلاق من المرجعية الإسلامية هو الوضع الطبيعي في مجتمع مغربي تجدر الإسلام في أعماقه وفي ثقافته وتاريخه وحاضره.
ولعل مفهوم المرجعية الإسلامية هو أكثر المفاهيم مدعاة إلى التوضيح المستمر في أدبيات الحزب. ووعيا منه بهذا الأمر سنجد أن هنالك عناصر جديدة تضاف إلى هذا المفهوم لتوسيعه وأيضاحه في كل حين.
2 ـ المشاركة والتعاون
على هذا المستوى نجد أن حزب العدالة والتنمية كان أكثر مرونة مما يمكن تصوره مقارنة بأحزاب تحمل نفس الهوية في بعض الأقطار العربية. ولعل الحركة الإسلامية في المغرب قد أصلت لهذه المرونة في التعامل مع كثير من الظواهر المتفشية في المجتمع من باب جلب المصلحة ودرء المفسدة كقاعدة أصولية. وفي هذا الباب تراجع الحزب عن الترشح عنما بدا له أن الترشح الشامل قد يجلب مشكلات للبلد والحزب، وتحالف مع حزب ذي مرجعية شيوعية من أجل بناء التحالف الحكومي، وهي أمثلة من أخرى كثيرة تبين فلسفة المشاركة والتعاون التي ميزت مسيرة الحزب.
3 ـ الإصلاح في ظل الاستقرار
ويعني هذا المبدأ نبذ كل صور الصراع مع الدولة. فأمن الدولة أولوية، والمواجهة مع النظام في أية قضية كانت أمر غير مقبول في أدبيات الحزب. الحزب إذن هو حزب إصلاحي وليس حزبا ثوريا. ولذا وجبت المساهمة في استقرار البلد والعمل من هذا المنطلق لإصلاح الأوضاع.
4 ـ الالتزام بثوابت الدولة
من أهم مرتكزات العمل السياسي لذى حزب العدالة والتنمية هو الالتزام بثوابت الدولة والتي هي على الخصوص: الإسلام كدين للدولة وما يرتبط به من مبدأ البيعة والملكية الدستورية والوحدة الوطنية. والاعتراف بهذه المبادئ هي شروط ضرورية لتأسيس أي حزب سياسي بالمغرب، غير أن الفارق هنا هو التأصيل الديني الذي يرجع إليه الحزب لاعتماد هذه المبادئ انطلاقا من مفهوم المرجعية الإسلامية.
5 ـ الديمقراطية
الديمقراطية بالنسبة للحزب هي مبدأ فكري وعملي وليس كلاما تاكتيكيا. ذلك أن كثيرا من الأحزاب والتنظيمات الإسلامية تتحدث عن الشورى والديمقراطية ولكنها لا تلتزم بها سواء في بنائها الداخلي أو تعاملها مع الفرقاء السياسيين. بالنسبة لحركة التوحيد والإصلاح يعتبر تطبيق مساطر الشورى أمرا مبدئيا قامت عليه الحركة منذ اليوم الأول. النقاش مفتوح للجميع، وتولية المهام بالاختيار الحر والتصويت سري، والاعتماد على الأغلبية في اتخاذ القرارات سواء كانت تنظيمية أو سياسية.
وقد انتقل هذا الفعل إلى المستوى الحزبي فكانت الديمقراطية سياسة داخلية في الحزب قبل أن تكون شعارا يرفع في الخارج. وقد حمى تطبيق الأسلوب الديمقراطي في اختيار المسؤولين وإقامة الهيئات الحزبية واتخاذ القرارات، حمى هذا الحزب وإلى اليوم، من حدة المشاكل الداخلية أو الاختلافات التي تنتهي غالبا عند هيئات أخرى إلى الانشقاقات والتشتت. والفكرة التي توجه هذا هي أن حزبا لا يلتزم بالديمقراطية الداخلية لا يجوز له أن يطالب الدولة أن تكون ديمقراطية. الديمقراطية هي إيمان بالحرية وتجسيد للحرية في الجسم الحزبي وداخل الدولة. والديمقراطية في صورتها العامة معروفة على المستوى الكوني. وعلى هذا الأساس نميز بين الدول الديمقراطية والدول غير الديمقراطية. وما يجري على الدولة يجري أيضا على الهيئات الحزبية والمدنية. وهذه هي فلسفة حزب العدالة والتنمية في الديمقراطية، والأمثلة علة هذا كثيرة في التجربة الحزبية لحزب العدالة والتنمية.
6 ـ النزاهة والمسؤولية
من الأسس الأخلاقية التي يحرص عليها الحزب هي التحلي بالمسؤولية والنزاهة عند تحمل المهام العامة. ويبدو أن هذا الأساس الأخلاقي كان عاملا حاسما في كثافة التصويت الذي حضي به الحزب، على اعتبار أنه لم يتم تسجيل أي فساد مالي أو أخلاقي في تجربة الإسلاميين وهم ينخرطون في تدبير الشأن العام.
نستنتج من كل هذا أن المرتكزات التي وجهت تجربة الإسلاميين في ممارسة السياسة وفي تدبير الشأن العام كانت نتيجة لاستجماع كثير من التجارب عبر ربوع العالم الإسلامي عموما، والعالم العربي خصوصا، ومحاولة الاستفادة منها في بناء أسلوب خاص في التعامل مع الأوضاع السياسية الداخلية، مما سمح بأن يتولى الإسلاميون رئاسة الحكومة لولايتين متتلايتين في ظل منافسة شرسة من قبل الفرقاء السياسيين الآخرين. وهو ما يدل على قدرة كبيرة في استيعاب الوضع ومرونة كبيرة في التعامل مع التغيرات الطارئة. وقد أطر هذا تصور نظري مقاصدي يقوم على فهم معين لروح الإسلام ولنصوص الشريعة. وقد ركزنا هنا على بعض المرتكزات التي قد تكون أرضية لبناء تجارب مماثلة يستطيع بها الإسلاميون أن يتفادوا سياسة الاستئصال الموجودة في بعض الأقطار العربية أو المشاركة الفاعلة والمفيدة في تدبير الشأن العام في أقطار أخرى.
رابعا: تجربة الإسلاميين بالمغرب: هل هي تجربة قابلة للنقل والتعميم؟
السؤال الذي يمكن طرحه الآن هو مدى قابلية نقل هذه التجربة وتعميمها باعتبارها من أنجح التجارب في القطار العربية إلى الآن. يمكن القول هنا أن التجربة السياسية هي في الأخير تجربة إنسانية. فمبدأ التعميم هو مبدأ غير ممكن. إننا لسنا بإزاء تجربة علمية في العلوم الطبيعية. غير أن هذا لا يمنع من قراءة أية تجربة ومحاولة الاستفادة منها في جوانب معينة. عدم إمكانية التعميم راجع إلى أن بنية الدولة في المغرب قد اختلفت عن مثيلاتها في العالم العربي منذ عقود. ونشير هنا إلى عدم جواز الحزب الوحيد، والدفع بالتعددية إلى مداها البعيد، وأيضا في أسس المشروعية والتي هي الإسلام. ولهذا فرئيس الدولة والذي هو الملك هو في نفس الوقت أمير للمؤمنين، مما يجعل الصدام مع الإسلاميين من آخر ما يمكن أن يفكر فيه النظام المغربي. إضافة إلى هذا فإن استمرار النظام قائم على التحكم في التوازنات السياسية، والإسلاميون هنا هم جزء لا يستغنى عنه في هذه التوازنات، مما جعل الفاعلين المدنيين والسياسيين والثقافيين يملكون هامشا كبيرا من الحرية في التعبير والفعل.
كل هذه العوامل لعبت دورها في استقرار البلاد ووجود التوافقات الكبرى وتراجع كل الأفكار الانقلابية في البلد. وهذه العوامل لا توجد كلها أو بعضها في باقي الأقطار العربية، وعلى الخصوص تلك التي تحكم بأنظمة انقلابية تجعل أمن واستمرار حكم الفرد أهم من كل ما عداه، مما يدفع نحو الاستئصال والاستبداد. وإذا كانت هذه العوامل محددة لوحدها فيمكن القول بأن لا يمكن نقل تجربة الإسلاميين. ومع ذلك فإننا سنجد كثيرا مما هو مشترك أو يمكن أن يكون مشتركا في التجربة السياسية للإسلاميين بالمغرب. نشير هنا إلى بعضها:
1 ـ تجديد الفهم أو الفهم المتجدد للدين ولمقاصده
أي التحديد الدقيق للعلاقة بين المساوئ والمنافع، والبحث عن العمل بإحداها ودفع الأخرى حسب الأوضاع التي يعشها الإسلاميون. إن فهم روح الدين بطرقة متجددة شرط ضروري في كل فعل إسلامي. وهذا ما نسميه بفقه الإصلاح.
2 ـ الدراسة الدقيقة للوضع السياسي والبحث العميق عن أفضل الطرق للفعل
ففي بعض البلدان التي يسود فيها الاستبداد بشكل كبير قد يفيد العمل الثقافي والاجتاعي والذي ينطلق من نفس هادئ وطويل نحو التغيير .
3 ـ المرونة في التعامل مع الأوضاع
تفاديا لإزهاق روح أي مواطن وهذا من خلال دراسة دقيقة لطبيعة النظام الذي يتعامل معه.
4 ـ الحسم الواضح في معادلة إقامة الدين وإقامة الدولة
فعملية إقامة الدين أولى ويجب العمل على تكريسها أولا، خصوصا إذا لم يكن أمر إقامة الدولة ممكنا. لا يجب أن نضخم من الوسيلة السياسية في التغيير، فليس بالسياسة وحدها تتغير الأوضاع.
إن هذه الأفكار وغيرها هي التي من الممكن تعميميها والتي يجب أن ننقلها من أجل بناء وعي دقيق بسنن التغيير. ذلك أن لكل بلد ظروفه الخاصة. إلا أن غياب الوعي وعدم القدرة على إبداع الأفكار التغييرية والتجديدية هي التي أسقطت كثيرا من الإسلاميين في أخطاء قاتلة جنت عليهم وعلى بلدانهم، وساهمت في تشجيع أنظمة فاسدة ومستبدة على الاستمرار في سياسة الاستئصال التي يعيشها كثير من الإسلاميين بالعالم العربي. وهنا فإنه لا يمكن إصدار أي حكم عام فالتجارب في علم الإنسان هي دائما تجارب نسبية.
خامسا: الإسلاميون بالعالم العربي أية آفاق من أجل تجربة متجددة ومن أجل دعم الديمقراطية؟
تحيلنا المعطيات السابقة إلى القول بأن على الإسلاميين أن يعوا بدورهم الحضاري في تجديد الموعد مع التاريخ وذلك بالقدرة على التكيف مع المتجدد من الأوضاع ومن أجل المساهمة في بناء الديمقراطية في العالم العربي. فعلى الرغم مما نرى اليوم فإن الأفق ليس بالظلامية التي قد يشيعها البعض. والديمقراطية هنا هي الأفق، وذلك باعتبارها تسمح بالتعبير والاختيار الحر. ليس من الضروري أن تأتي الديمقراطية بالإسلاميين لكن يكفي أن يساهم الإسلاميون في إقامة وضع سياسي يسمح للجميع بالاختيار. لا تعني الديمقراطية إذن أن يحكم الإسلاميون، ولكن تعني أن تكون الشعوب حرة تعبر بأغلبيتها عما تريد.
وفي هذا النطاق يجب أن نجدد تصورنا عن الديمقراطية، وعن حكم الشريعة، وعن مفهوم الدولة الإسلامية، وهي من القضايا التي لا تزال غير واضحة لكثير من الإسلاميين. أفق الدولة الديمقراطية الحرة هو معنى الدولة العصرية . وعندما ندافع عن حرية الإنسان، وعندما نخلص الإنسان من الطغيان والاستبداد، وعندما نساهم في الأمن الروحي لمجتمعاتنا إذ لا ديموقراطية داخل أوضاع غير مستقرة،، فإننا بهذا نحقق المشروع الإسلامي والدولة الإسلامية التي يعيش فيه الإنسان حرا كريما. إنها فلسفة السياسة التي يجب أن يعي بها الإسلاميون باعتبار الإسلام هو في الأساس دين الحرية والكرامة الإنسانية. من أجل تحقيق هذه الغايات هنالك أساليب متعددة قد تكون ثقافية أو اجتماعية أو تشاركية أو غيرها. وهنا فإنه ستكون لكل بلد تجربته ولكن هذه التجربة يجب أن تكون مبنية على مشروع فكري واضع نابع من فهم دقيق لمقصد الشرع وروح الدين.
خلاصة:
نخلص إلى القول بأن موضوع الإسلاميين والديمقراطية في العالم العربي هو موضوع يحتاج في كل لحظة إل تفكير علمي موضوعي هادئ لأنه لحد الآن لم يدرس بالكفاية الضرورية من طرف باحثين يوجههم الهم المعرفي وليس الهم الأيديولوجي الذي يتأسس فقط على أحكام اتهامية وسياسية تساهم في تردي الأوضاع أكثر مما تساهم في حل مشكل الحرية والديمقراطية والذي هو مشكل بلدان وشعوب، وليس مشكلا سياسيا، قد يفوز به طرف ويخسر آخر. خسارة رهان الديمقراطية هو خسارة لبلداننا في أن تدخل عصر التحضر والتقدم والقدرة على المنافسة في عصر لايرحم الضعيف.
…………………………………………………………ا
المراجع المعتمدة بتصرف في إنجاز المقال:
1 ـ محمد الحمداوي: العمل الإسلامي بدائل وخياراتـ سلسلة فقه الإصلاح ( الرباط 2016 )
2 ـ حزب العدالة والتنمية، الورقة المذهبية البرنامج العام( الرباط 2006
3 ـ حزب العدالة والتنمية : أطروحة المؤتمر الوطني السابع: شراكة فعالة في البناء الديمقراطي ( الرباط 2014 )
4 ـ محمد يتيم: الوسطية والاعتدال: منشورات حركة التوحيد والإصلاح( الرباط 2005)
6 ـ حركة التوحيد والإصلاح: الميثاق . الطبعة الثانية ( الرباط 1999 )
7 ـ د أحمد الريسوني: قضية الأغلبية من الوجهة الشرعية ( بيروت 2013 ، الشبكة العربية للأبحاث والنشر) طبعة2