لازال رنين الشعارات الانتخابية التي سبقت 8 شتنبر 2021 يداعب أذان المغاربة الذين ينتظرون ترجمتها على أرض الواقع. ولأن المغرب كان حظه سيئا مع حكومتي العدالة والتنمية طيلة عشر سنوات، رفع الحزب المتصدر للانتخابات شعار “تستاهلو أحسن” في إشارة إلى أن التدبير السابق الذي ساهم فيه بحقائب وزارية وازنة واستراتيجية (المالية والاقتصاد، والفلاحة والصيد البحري، الصناعة والتجارة..) كان سيئا، مُخليا كل مسؤوليته من ذلك السوء إن وجد، أما الحزبان الآخران اللذان يشكلان الثلاثي الذي يسير الحكومة والجهات والمدن، فلم يبخلا بشعارات رنّانة تُقوي من عزيمتنا، وتَعدنا بالخير الذي سيفيض علينا، فأبدع الحزب الثاني شعار: “البام باش نزيدو للقدام” وها نحن نرى هذا “القدام” الأسود الذي أمامنا، أما الحزب الثالث فقد خاطبنا بشعار “الإنصاف الآن” ولازلنا ننتظر الإنصاف، خاصة بعد خرجة أمينه العام قُبيل انتخابات 2021 واعدا بأنه سيعمل على تسقيف سعر المحروقات، فلا ينبغي ضرب القدرة الشرائية للمواطنين! وهو اليوم يجالس أخنوش صباح مساء، ولم تذكره هذه الرفقة بذلك الشعار.
لذلك لم تتأخر هذه الحكومة في الكشف عن توجهاتها، فباشرت منذ الوهلة الأولى الإصلاحات الموعودة، وسارعت إلى طمأنة الرأي العام أنه على موعد مع الازدهار والتقدم وفضح جيوب الفساد التي أنهكته، وأنها حكومة اجتماعية لا يهمها إلا أن ترى الراحة والاطمئنان في جيوب المواطنين، وأن تظهر السعادة على وجوههم، إنها تعدهم بكل شيء جميل الذي غاب في “الحكومة المُلتحية” على قول وزير الأوقاف السابق عبد الكبير العلوي المدغري رحمه الله. أما الطبقة المتوسطة فالوعد كان صارما وجازما، إنها ستعرف توسعا في عدد المنتسبين لها، وإن كفاءات الحكومة المنتشرة في كل القطاعات الوزارية ستولي اهتماما خاصا للطبقة المتوسطة التي ستعيش أزهى أيامها مع حكومة 8 شتنبر!
فانطلق تنزيل البرنامج الحكومي بكل حيوية ونشاط، فتم حل اللجنة الخاصة بمحاربة الفساد على مستوى رئاسة الحكومة، التي اجتمعت في عهد حكومة العثماني لوضع خطط قمينة بالقضاء على هذا الفيروس الخطير، لكن هذه الحكومة لم تر ضرورة لهذه اللجنة المزعجة فسارعت للتخلص منها. وأعقبت ذلك بسحب مشاريع القوانين من البرلمان، تلك المشاريع الملعونة المهددة للتوازنات الماكرواقتصادية، التي تقض مضاجع القائمين على الشأن العام. وهكذا توارى للخلف مشروع القانون الجنائي الذي يُجرم الإثراء غير المشروع، ولازلنا لحد الساعة ننتظر وعود وزير العدل الذي أكد أنه سيعيده للبرلمان، حيث قال مبررا سحبه: أنهم ليسوا هنا لإكمال عمل الحكومة السابقة، وها هو نصف الولاية ينتهي دون فعل ذلك. للتذكير فَوزير العدل هذا لمّا كان أمينا عاما لحزبه، أثناء الإعداد لانتخابات 8 شتنبر، أزبد وأرغد ووعد أنه لن يقبل أن يترأسه أحد في حكومة مقبلة، خاصة إن كان يجر خلفه تهمة 17 مليار التي أشار إليها تقرير اللجنة الاستطلاعية البرلمانية حول المحروقات.
كما انتبهت الحكومة ـ جازاها الله بخير ـ إلى التهديد الكبير الذي يستهدف الملك العمومي، والنية المُبيتة لحكومة الإسلاميين في محاولة عقلنة الاستفادة منه وتحديد زمن ذلك، والسومة المالية المناسبة له، تلك الحكومة التي تركت إرثا ثقيلا وراءها يتمثل في مشروع قانون استغلال الملك العمومي الذي يهدد مصالح النافذين، الذين يُقيمون مشاريعهم على الملك العمومي البحري والبري والجوي إن أمكن ذلك، لكنهم وجدوا في الحكومة الحالية المعروفة بالإنصات والتفاعل خير سند ومدافع عن الخطر الذي يتهددهم، فسحبت ذلك المشروع المقيت دون وعد بإعادته للبرلمان حتى لا تقض مضجع المستفدين المبجلين.
ولأن هذه الإجراءات غير كافية، نقّبت حكومة الكفاءات بجد واجتهاد في رفوف البرلمان لعلها تجد مشروع قانون آخر يعادي المصلحة العامة ويضرب في العمق إرادتها الحثيثة والمعلنة في محاربة الفساد وتضارب المصالح، والذي قد تكون الحكومة السابقة قد مررته في غفلة من الزمن، ولم يهنأ لها بال حتى وجدت مشروع قانون آخر يتعلق بالمناجم هذه المرة، فأزاحته بقوة. للإشارة فهذا المشروع يهدف إلى تثمين الثروة المعدنية وسد خصاص تشريعي استمر لأربعة وستين عاما، فآخر تشريع اعتمد في هذا المجال كان سنة 1951 أي قبل الاستقلال، لذلك ارتأت حكومة أخنوش ألا تفرط في هذا الإرث التاريخي، فالذاكرة لها مكانتها عند مكونات هذه الحكومة. ولا مجال للإقدام على مبادرات غير محسوبة العواقب كما فعل الوزير عزيز رباح سنة 2012، حينما أعلن عن لائحة المستفيدين من رخص النقل (الكريمات)، تلك اللائحة التي لم تكن سوى محاولة لتنزيل دستور 2011، رغم ذلك لم يسلم رباح وحزبه من كيل الاتهامات بالشعبوية.
الملاحظ أن هذه الحكومة دقيقة في اختيار مشاريع القوانين التي تستوجب السحب، فرغم أن الحكومة السابقة تركت عددا منها ينتظر المصادقة والتصويت، لكن هذه الحكومة اختارت تلك المشاريع التي تهدد مصالح كتلتها الانتخابية.
هندسة هذه الحكومة المنقوصة ـ لم يتم تعيين الكتاب العامين لحد الآن كما أعلن عنه سابقا ـ والتي يحس بعض قادتها بأنهم أنجزوا مهمتهم بإزاحة حزب العدالة والتنمية، وليس لهم حاجة لأية إنجازات أخرى، ولا وفاء بالبرامج الانتخابية أو البرنامج الحكومي، أو تقرير لجنة النموذج التنموي التي أخبرتنا هذه الحكومة أنها ستجعل منه سراجها المنير، الآن لا يتحدث أحد عن ذلك التقرير، حتى صاحبه الذي أشرف على إنجازه عطّل المدرسة العمومية لمدة ثلاثة أشهر، وشرّد ملايين التلاميذ. وهو ما يكرره زميله اليوم في وزارة التعليم العالي، حيث السنة الدراسية تسير نحو البياض لطلبة كليات الطب دون حوار أو استماع لهذه الفئة المتفوقة دراسيا، ولا استجابة للفرق البرلمانية.
أما الأسواق المغربية فهي تشع بالمخططات المتعددة الألوان، من أخضر للخضر والفواكه وأزرق للأسماك التي تملأ الموائد المغربية طولا وعرضا، ولمن ساوره شك في النبوغ الفلاحي، فليسأل عن نسب الأسر المغربية التي استطاعت اقتناء أضحية العيد، حيث ضاع الاكتفاء الذاتي في بلدنا الفلاحي، واعتمدنا على القطيع الإسباني والروماني لتزويد السوق المغربية، ودعمنا أصدقاءنا أصحاب رؤوس الأموال بخمسمائة ردهم للرأس، لكننا بعد ذلك لا نعلم أي اتجاه أخذته تلك المواشي، ولم تتدخل حكومتنا الموقرة لتسقيف أسعار القطيع الذي دعمته، وتركت الكلمة العليا لمنطق القوة وكأننا في الغاب. والطريف في الموضوع أن رئيس الحكومة الحالي هو من أشرف عن هذا القطاع لولايات حكومية متعددة، وعندما غادره ترك كرسي الوزارة لكاتبه العام المنتمي لحزبه والمتخصص أكاديميا في النباتات، يعني أنه راكم تجربة علمية وعملية في الميدان، رغم ذلك لا أثر لهذه التراكمات على أرض الواقع، إلا إسعاد أصحاب الحظ من المقربين.
أما على المستوى السياسي والحقوقي فهذه الحكومة ـ ولله الحمد ـ مستقيلة من أي فعل فيهما، وكأنها غير مكونة من أحزب سياسية، وهذا ليس غريبا عنها، فجل وزرائها لا تربطهم صلة بالأحزاب التي صُبغوا بها، وسينتهي انتماؤهم لها بمجرد مغادرة مناصبهم الوزارية، فهذه الفئة من التكنوقراط تَلعن السياسة والسياسيين، لكنها إذا استدعيت لشغل منصب حكومي تسارع الخطى لتزاحم مناضلي هذه الأحزاب، ولا تجد غضاضة في دخول مقر الحزب الذي حملت لونه والجلوس في مكتبه السياسي، متخطية بذلك جميع مراحل العضوية والنضال.
أما حقوقيا فقد تخصص بعض وزرائها في إقامة الدعاوي القضائية ضد الصحفيين والمؤثرين، وإرسالهم للسجون دون أن يرف لهم جفن، وتحريض بعض المواقع التي تمتهن التشهير على كل من ينغص راحة حكومتنا الموقرة، التي ستدخل التاريخ كأول حكومة تضيف غرفة ثالثة لمجلس النواب والمستشارين، وهي الغرفة التي تحتضن الكثير من برلمانييها ورؤساء جماعاتها خلف القضبان.
رابط المشاركة :
شاهد أيضا