بحكاك يكتب: عام على طوفان الأقصى.. آلام وآمال

حميد بحكاك، باحث في علم السياسة والقانون الدستوري


مقدمة
في يوم 7 أكتوبر 2024 تكون مرت سنة على “عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023″، التي أطلقتها حركة المقاومة الإسلامية “حماس” مع مجموعة من الفصائل الفلسطينية، ردا على سياسة الاحتلال الإسرائيلي لأكثر من سبعين سنة في فلسطين عامة وغزة خاصة (17 سنة من حصار غزة منذ 2006)، هذه العملية كانت لها تداعيات وآثار دراماتيكية إن على المستوى الداخل الفلسطيني وتداعيات على المستوى الإقليمي والدولي، وخلال سنة بعد هذه العملية والمستمرة نستعرض مجموعة من الملاحظات والخلاصات:
1 هذه العملية جاءت كرد فعل ضد عقود من الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني وبتواطؤ غربي (بريطانيا التي أنشأت إسرائيل ثم أمريكا التي ترعاها حاليا بالمال والسلاح والإعلام)، وعجز أممي عن القضاء على آخر نظام فصل عنصري استيطاني عمر طويلا دون أن يجد حلا عادلا وشاملا، بسبب الأعطاب البنيوية التي تعرفها الأمم المتحدة على مستوى مجلس الأمن الدولي، وبسبب المعايير المزدوجة والكيل بمكيالين ومنطق القوة الذي يحكم النظام الدولي الحالي.
2 خلَّفت عمليات الإبادة الجماعية التي تقوم بها إسرائيل في غزة والضفة الغربية ولبنان الآن، آلاف الضحايا معظمهم مدنيين أغلبهم من النساء والأطفال جراء الانتقام الوحشي لقوات الاحتلال الإسرائيلي (ارتفع عدد ضحايا العدوان الإسرائيلي إلى 41 ألفا و689 شهيدا و 96 ألفا و625 مصابا منذ 7 أكتوبر الماضي حسب وزارة الصحة الفلسطينية إلى حدود  2 أكتوبر 2024) وهدف هذا الانتقام والإبادة الجماعية هو دفع الفلسطينيين إلى مغادرة غزة وفلسطين وتحقيق الحلم الصهيوني بإنشاء إسرائيل الكبرى التي تمتد من الفرات إلى النيل (أرض الميعاد)، كما أن هذه الإبادة الجماعية شملت كل مقومات الحياة من طرقات ومدارس ومستشفيات ومساجد وكنائس وبنيات تحتية صحية وتعليمية وتلويث مياه صالحة للشرب وانقطاع الكهرباء وكارثة إنسانية ودمار، واستهداف بنايات تابعة للأمم المتحدة تقدم الدعم للشعب الفلسطيني وموظفيها الذين قتل منهم ما يقرب من 300 من عمال الإغاثة أكثر من ثلثيهم من موظفي الأمم المتحدة وكوادر طبية، وامتد القتل الوحشي إلى الصحفيين الذين ينقلون الحقيقة إلى العالم والذين بلغ عدد الذين استشهدوا منهم إلى  صحفي173، كل هذا جرى ويجري أمام مسمع ومرأى من العالم وعلى الهواء مباشرة.
3 فشل الاحتلال الإسرائيلي حتى اللحظة في تحقيق أهدافه المعلنة، من إطلاق سراح الأسرى لدى حماس (تعتبرهم إسرائيل رهائن)، والقضاء على المقاومة الفلسطينية أو إضعافها، واحتلال غزة عسكريا، كل هذا لم يتحقق وعوضه الاحتلال الإسرائيلي بقتل المدنيين واستهداف البيئة الحاضنة للمقاومة بالقتل والتشريد والتجويع، ولم تسلم حتى الضفة الغربية التي تحت حكم السلطة الفلسطينية، وأسقطت عملية طوفان الأقصى، كل السرديات والأساطير التي روج لها الإعلام الإسرائيلي منذ عقود من أن إسرائيل قوة لا تقهر، وأنها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط( ديمقراطية تفرز حكومة فاشية ونازية باختيار شعب المستوطنين)، وأنها أقوى جيش في المنطقة، وأقوى جهاز استخباراتي في العالم، (تقدر الخسائر البشرية لجيش الاحتلال في : قتل 658 جنديا وضابطا إسرائيليا و إصابة 3 آلاف و835 ضابطا وجنديا حسب ما تسمح به الرقابة العسكرية) كل هذا سقط يوم 7 أكتوبر 2023، فلأول مرة تتعرض إسرائيل لضربة مباغتة من داخل فلسطين المحتلة زعزعت ثقتها وقناعتها في مشروعية وجودها كدولة احتلال وأدخلت المشروع الصهيوني في أزمة وجودية، وأبرز تجلياته هجرة الآلاف من الإسرائيليين ومغادرة إسرائيل، فيما سمي إعلاميا ب”الهجرة المعاكسة” بالإضافة إلى العزلة الدولية لإسرائيل، كان آخر مظاهرها انسحابات مجموعة من الوفود أثناء إلقاء “النتن ياهو” كلمته في الأمم المتحدة في الدورة الأخيرة شتنبر 2024 .

4 الصمود الأسطوري للمقاومة الفلسطينية، والشعب الفلسطيني أمام آلة الحرب الجهنمية والمدعومة بترسانة عسكرية متطورة أمريكية ومحلية الصنع، هذا الصمود الذي كذَّب توقعات المحللين العسكريين الإسرائيليين حول قدرات المقاومة وإضعافها، وأظهر تطورا نوعيا في التخطيط والتنفيذ لدى المقاومة رغم تواضع الإمكانيات وقساوة الظروف التي يشتغلون فيها في الأنفاق، والتي لا زالت لغزا محيرا يذكر بالأنفاق الفيتنامية أثناء حرب الشعب الفيتنامي ضد التدخل والاحتلال الأمريكي، وكذلك نظافة المقاومة التي تقصف الأهداف العسكرية من جنود وآليات ودبابات ومدرعات، في صور موثقة وبحرفية عالية كانت جزءا من المعركة الإعلامية والنفسية ضد الاحتلال، هذه الصور وإخراجها وتوقيت بثها كانت تفضح الرواية الإسرائيلية المسوقة داخل إسرائيل وإلى الخارج، وفضحت أسطورة الجيش الذي لا يقهر وحطَّمت هيبة إسرائيل، وشكلت ورقة ضغط أثمرت وقفا لإطلاق النار مؤقت في مرحلة أولى وإطلاق الرهائن والأسرى من الجانبين، لعبت فيها الصورة مرة سلاحا ضد الدعاية الإسرائيلية وأظهرت التعامل الإنساني للمقاومة مع الأسرى، التي حاول الإعلام الإسرائيلي وجزء من الإعلام الغربي تصوير حماس كحركة إرهابية وإلحاقها بداعش وتنظيم القاعدة، وكذبتها بعض شهادات الأسرى الإسرائيليين المفرج عنهم في إطار الصفقة.
5 أنسنة القضية الفلسطينية، بانتقالها من قضية تهم الشعب الفلسطيني بالدرجة الأولى والعالم العربي والإسلامي بالانتماء القومي والديني، إلى قضية إنسانية انخرطت في التضامن معها دول وشعوب من خلال التظاهرات الشعبية والطلابية العالمية شارك فيها حتى يهود ومؤسسات يهودية يعارضون إسرائيل، وامتدت هذه المسيرات الشعبية إلى معاقل الدول الغربية المعروفة بمساندتها لإسرائيل في أوروبا، وإلى الجامعات الأمريكية العريقة للمطالبة بوقف الإبادة الجماعية في حق الفلسطينيين وقطع المساعدات عن إسرائيل، وفجرت نقاشا حقوقيا وقانونيا دوليا حول مدى جدية احترام القانون الدولي الإنساني والاتفاقيات الدولية حول حقوق الإنسان وحقوق الطفل والمرأة وحماية الصحفيين ….الخ، وحالة الأمم المتحدة وعجزها، كما رفعت دولة جنوب إفريقيا وهي دولة غير عربية و إسلامية، دعوى قضائية ضد إسرائيل لدى محكمة العدل الدولية في إطار “اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها” الصادرة بتاريخ 9 ديسمبر 1948 عن الأمم المتحدة ووقعتها كل من “إسرائيل” وجنوب إفريقيا.وقد التحقت مجموعة من الدول تباعا بهذه الدعوى، مما فتح جبهة قضائية في وجه الاحتلال الإسرائيلي، يضاف إلى ذلك جهود محكمة الجنايات الدولية في إصدار مذكرة اعتقال في حق رئيس الحكومة الإسرائيلية ووزير دفاعه، وهذه المحاكمة و المعركة القضائية تعد سابقة في وجه الاحتلال الإسرائيلي الذي تعوَّد على سياسة النسيان أو التناسي و اللاعقاب والحماية الأمريكية، وبالتالي القضية الفلسطينية التي كان يراد دفنها من خلال “اتفاقيات أبراهام” و”صفقة القرن” و”موجة التطبيع”، وشطبها من الأجندة الدولية، انبعثت من جديد وتصدرت واجهة الأحداث الدولية وغطَّت على حرب أوكرانيا وحرب السودان. كما التحقت مجموعة من الدول بلائحة المطالبين بإقامة الدول الفلسطينية على المستوى العالمي، منها ثلاث دول أوروبية (أيرلندا وإسبانيا والنرويج) وهو مؤشر على بداية تفكك الموقف الأوروبي المؤيد لإسرائيل، كما طالبت وزيرة الخارجية الأسترالية بيني وونغ، المجتمع الدولي بإقامة دولة فلسطين على وجه السرعة، مشددة على أن “العالم لا يمكنه أن ينتظر أكثر” جاء ذلك في كلمتها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الـ79 (شتنبر 2024).
6 السقوط الأخلاقي للغرب والتنديد بازدواجية المعايير والكيل بكيالين، وتجلى ذلك ما يجري مع روسيا في أوكرانيا وبين ما يجري مع جرائم دولة الاحتلال في فلسطين، وانكشفت الطبيعة المزودجة للسلوك الغربي الرسمي المساند لإسرائيل، الوجه الإنساني الديمقراطي الحقوقي داخل البلدان الغربيةـ ومع حلفائها، والسلوك العنصري الاستعماري خارج الحدود ومع الشعوب الأخرى الغير المنتمية للمنظومة الغربية حضاريا وثقافيا. واتضح أن شعارات حقوق الإنسان تُستعمل لتحقيق مصالح الغرب من أجل الضغط وابتزاز الأنظمة والشعوب التي ترفض الغضوع لسياساتها أو لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية وعسكرية.
7 ضعف الأمم المتحدة وعجزها عن إيقاف المجازر التي ترتكبها إسرائيل وتحقيق السلم والأمن الدوليين سواء في غزة أو أوكرانيا، بسبب نظام الفيتو المعمول به في مجلس الأمن، وعجزت حتى عن حماية موظفيها الذين قتلوا بنيران إسرائيلية، وقد عبر عن هذا الضعف والشلل، كلمات وخطابات رؤساء الدول أثناء الدورة 79 للأمم المتحدة في شتنبر 2024، ومعظم الخطابات في هذه الدورة تحدثت عن هذا الوضع الذي يتطلب إصلاحا هيكليا وعاجلا للمنظمة وهو ما طالب به على سبيل المثال الرئيس الفرنسي والرئيس التركي وغيرهم، حتى لا تتكرر تجربة “عصبة الأمم” في عشرينات من القرن الماضي الذي أدى فشلها إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية، وكذلك انتقاد الأحادية القطبية الغربية الأمريكية، والدفع بالنظام الدولي إلى التعددية القطبية تقوم على التوازن والمصالح المتبادلة واحترام ثقافة الشعوب والحضارات والأديان.
8 دخول وسائل التواصل الاجتماعي كأداة لفضح الرواية الإسرائيلية التي تردد أن إسرائيل تدافع عن نفسها وأن حرب غزة بدأت مع عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023، وأن ما تقوم به إسرائيل هو رد فعل ضد “إرهاب حماس”، وروج لهذه السردية كثير من القنوات الإعلامية الغربية الرسمية وتم خرق القواعد المهنية للصحافة بشكل فاضح (الولايات المتحدة الأمريكية فرنسا بريطانيا ألمانيا)، ومع دخول وسائل الاتصال الحديثة على خط المعركة من هواتف نقالة ولوحات إلكترونية ونقل المشاهد الوحشية لقوات الاحتلال الإسرائيلي بالصوت والصورة، بدأت السردية الإسرائيلية تتهاوى وتنفضح يوما بعد يوم، وتراجع من كان يؤيدها، وآخر تجلياتها مطالبة الرئيس الفرنسي بإيقاف إيراد الأسلحة إلى إسرائيل.
9 ضعف الكيانات العربية والإسلامية، كجامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، مما جعلها على هامش الأحداث، باستثناء بعض البيانات اليتيمة التي تخرج بين الفينة والأخرى رفعا للحرج، ضعف النظام العربي الرسمي وتخاذله، يقابله تحرك الشعوب والمسيرات التي تنزل إلى الشارع للتنديد بالمجازر الإسرائيلية في حق المدنيين (في الدول التي سمحت للتظاهرات كالمغرب والأردن) وإيقاف التطبيع وإسقاطه، وشكلت عمقا شعبيا وجماهيريا وإسنادا للمقاومة، وهو ما يذكرنا بمسيرات الربيع العربي أو ربيع الشعوب سنة 2011 المطالب بإسقاط الفساد والاستبداد، يضاف إلى ذلك جبهات إسناد الفلسطينيين فيما يعرف ب”وحدة الساحات” بين المقاومة اللبنانية الممثلة في حزب الله في لبنان والمقاومة في العراق والحوثيين في اليمن، والتي أضفت بعدا إقليميا ودوليا لهذا الصراع (القصف المتبادل بين الحوثيين والقوات الأمريكية والبريطانية في البحر الأحمر).
10 الترابط العضوي بين المشروع الصهيوني والسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط إلى حد التطابق، وأن إسرائيل قاعدة أمريكية كاملة الأوصاف، عسكرية وأمنية وسياسية، ودولة وظيفية، تحظى بالدعم الأمريكي اللامحدود عسكريا وديبلوماسيا من خلال استعمال حق الفيتو في مجلس الأمن لإسقاط قرارا ت تدين إسرائيل، أو تطالب بوقف إطلاق النار في غزة، وحتى دور “الوساطة” التي تقوم به أمريكا اتضح أنه موقف متحيز لإسرائيل منذ بادية العدوان ، فقد صرح وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن في بداية عملية طوفان الأقصى، أثناء زيارته إسرائيل بأنه يأتي لإسرائيل لا كوزير للخارجية فقط وإنما  كيهودي، وحضر مجلس الحرب الذي أطلق عمليات الإبادة في الحرب في غزة.

خلاصات
يبدوا أن الصراع بدأ يتدحرج إلى حرب إقليمية رغم التحذيرات من هنا وهناك، خصوصا بعد اغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، ودخول إيران هذه المرة، وللخروج من دوامة الصراع لابد من تسجيل خلاصتين تتعلقان بأزمة الشرق الأوسط والتي تشكل القضية الفلسطينية جوهرها الأساسي.
1ضرورة إعادة القضية الفلسطينية إلى أروقة الأمم المتحدة، والاختصاص الحصري للمنظمة، ومنح فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، وإعادة النظر في المقاربة التي تدار بها “عملية السلام” في الشرق الأوسط، والتي تتجلى في استفراد أمريكا وإسرائيل بالطرف الفلسطيني المستضعف وحشره في الزاوية والضغط عليه للقبول بحلول استسلامية آخرها “اتفاقية أوسلو” سنة 1993، التي لم توقف الاستيطان بل ازداد توسعا، وحولت السلطة الفلسطينية، إلى جهاز أمني يلاحق المقاومين الفلسطينيين ويعتقلهم، وخلقت انقساما فلسطينا حادا بين المقاومة والسلطة الفلسطينية أضعف الصف الوطني الفلسطيني، ويعتبر هذا الانقسام من أكبر التحديات الفلسطينية التي يستغلها الاحتلال الإسرائيلي لإضعاف الصف الفلسطيني وتكريس سياسة الاحتلال .
2 ضرورة الإصلاح العاجل للأمم المتحدة من حيث توسيع التمثيلية الدولية داخل مجلس الأمن وإصلاح أو عقلنة استعمال حق الفيتو أو استبداله وتعويضه بالتصويت بالأغلبية حتى يعكس حقيقة “المجتمع الدولي” وهو المصطلح المتداول في الإعلام الأمريكي والغربي والذي لا يطابق الواقع، فاستعمال الفيتو من قبل روسيا والصين في الحالة السورية والأوكرانية، واستعماله من قبل أمريكا في الحالة الفلسطينية لحماية الاحتلال الإسرائيلي، يعكس خطورة هذه الفوضى الدولية التي يعرفها العالم وتهدد السلم العالمي وحياة الملايين من المدنيين الأبرياء الذين يتحولون إلى حطب للتدفئة، ويذهبون ضحايا اللعبة الدولية ولعبة الأمم بين القوى الكبرى ووكلائها في المنطقة.

*باحث في علم السياسة والقانون الدستوري

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.