أكد القاضي السابق، جعفر حسون، أن خروج مشروع المسطرة المدنية إلى التداول، بكل هذا العوار، والانحراف الجسيم، حتى عن فلسفة التشريع الذي لا ينبغي أن يشرع إلا لحماية الحقوق وتنظيمها، وليس لتقييدها أو إعدامها، لهو أعظم خطرا من مجرد قرار إداري محدود المدى والأثر القانوني.
وأضاف جعفر في مقال رأي بعنوان: “دفاعا عن الحق في التقاضي… طلب فحص الدستورية كطريـق ثالث“، أن بعض مقتضيات مشروع تعديل المسطرة المدنية، لا علاقة لها بالتوجهات والمبادئ المعلن عنها في ديباجة المشروع، هذا إن لم تكن تسير في الاتجاه المناقض لها تماما.
واسترسل، ومن ذلك أن اعتماد القيمة المالية للنزاع كأساس لحصر طرق الطعن ودرجات التقاضي المتاحة أمام المتقاضي (المواد 30ـ 35 ــ 375)، تعكس تقييما ماديا ليبراليا للقضايا والمنازعات يغيب طابعها الحقوقي وقيمتها المعنوية، فضلا عما ينطوي عليه من إنكار لمبدأ المساواة أمام القانون.
وتابع: “إذا كان هذا التوجه يجد مبررا مقبولا نسبيا بالنسبة لقضاء الموضوع، فالأمر يختلف بالنسبة للطعن بالنقض، باعتبار محكمة النقض محكمة قانون مناط بها توحيد تفسير وتأويل القانون وتطبيقه، وهو ما لا يتأتى مع حصر مجال تدخلها”.
وأردف: “في المقابل يفتح باب الطعون على مصراعيه، وحتى خارج الآجال، أمام النيابة العامة، بل أمام وزير العدل بصفته، عن طريق طلب التصريح بالبطلان (المواد 17 و407 و408 من المشروع كلما ظهر لهما أن حكما قضائيا من شأنه الإخلال بالنظام العام، أو ثبوت خطأ قضائي أضر ضررا فادحا بحقوق أحد الأطراف”.
وقال جعفر إن التناقض يبلغ أوجه حين تنص المادة 17 نفسها على أنه (إذا صدر حكم من محكمة النقض، حكم بالنقض، فلا يمكن للأطراف الاستفادة منه ليتخلصوا من مقتضيات الحكم المنقوض) ليكون الطعن أو طلب البطلان المبني أصلا على حصول خطأ في تفسير القانون وتطبيقه، أضر بحقوق أحد الأطراف في النهاية بدون جدوى…
وأضاف، كما أن باب الطعن ــ أو الإحالة ــ كما سماها المشروع ــ مفتوح أيضا لوزير العدل في المقررات التي يكون القضاة قد تجاوزوا فيها سلطاتهم، ويفهم هنا أن هذه المقررات ( الأحكام ) شابها ما يعتبر افتئاتا على اختصاص الحكومة واقتحام مجال السلطة التنفيذية، مما يقتضي أيضا ــ تبعا لهذا المنطق ــ فتح نفس الباب أمام رئيس مجلس النواب، إذا اعتبر الحكم تجاوزا على سلطات التشريع، وهي حالة جد نادرة أو تكاد تكون منعدمة، وتعكس توجسا غير مبرر في حالتنا من تكريس ما يصطلح عليه بدولة القضاة التي تكون اليد العليا فيها للقضاء…
وقال رئيس المحكمة السابق، إن ما يثير الاستغراب حقا، ويشكل صدمة قوية وغير مسبوقة في أي قانون إجرائي، هو ما أتت به المادة ـــ 62ـ من المشروع التي شرعت تغريم المتقاضي بغرامة ثقيلة (من 1000 إلى 5000 درهم) عن كل دفع شكلي يثيره دفاعه، أو وكيله أو حتى هو شخصيا، ويكون مآله الحكم بعدم قبوله، ليس فقط من حيث إن هذا المقتضى يكبل المتقاضي ويقيد حقه في رسم استراتيجية دفاعه، وإثارة أي دفع يراه جديرا بدفع الادعاء عنه، ويجهز بالتالي على جوهر الحق في الدفاع كحق أصيل للمتقاضي، كما يضرب في الصميم مبدأ شخصية العقوبة حيث يأخذ المتقاضي بجريرة دفاعه أو وكيله حين يثير دفعا في غير محله، فضلا عن إغفال المشروع أن رد الدفع والتصريح بعدم قبوله قد ينتج عن سوء فهم الدفع أو الخطأ في تكييفه أو تقدير جديته من طرف القاضي أو حتى هيئة المحكمة الذين هم في النهاية بشر يخطئون ويصيبون…
واعتبر القاضي السابق، أن هذا المقتضى يقوض تحت ذريعة تقوية مبدأ التقاضي بحسن نية، وردع المتقاضي سيء النية عن إثارة دفوع غير جدية لمجرد كسب الوقت وإطالة أمد التقاضي.
وشدد أن الأفدح في كل هذه التجاوزات، هو تخلي المشروع عن مبدإ إلزامية الاستعانة بمحام L’obligation du ministère de l’avocat كمبدأ أصيل في إجراءات التقاضي، بشكل مطلق.
وذكر أن هذا التعاطي مع مهنة المحاماة على أنها حرفة معيشية، أو في أحسن الأحوال مقاولة اقتصادية، يضرب في الصميم التوجه الحداثي لدولة القانون والمؤسسات التي تعتبر المحاماة مؤسسة عامة، تؤدي خدمة عامة، باعتبارها شريكة للدولة في إنفاذ القانون، بل وفي صناعته وتنزيله، من خلال ما تقدمه من شروح وتأويل عملي بمناسبة المنازعات والقضايا التي تتولاها.
وشدد جعفر أن مشروع القانون يثير إشكالات ذات طبيعة دستورية ومؤسساتية، فضلا عن انعكاساتها وتداعياتها الاجتماعية، مما يجعلنا نتفهم الجدال المحتدم الذي يثيره المشروع في الأوساط المهنية، والذي تطور إلى أزمة حادة، انقسمت بشأنها المواقف بين الفرقاء.
وقال إن هناك طريقا ثالثا لحل هذه الأزمة، هو نفسه الطريق الذي تحل به الأزمات والمنازعات في أي دولة تبنت خيار دولة القانون والمؤسسات كخيار استراتيجي لا رجعة فيه، وهو طريق التقاضي الدستوري، والاحتكام إلى الدستور باعتباره التعبير الأسمى عن إرادة الأمة، والقانون الأسمى الذي تقع تحت طائلته جميع التعبيرات القانونية الأخرى والملزم لجميع سلطات ومؤسسات الدولة.
وأضاف كاتب المقال، وذلك غير طريق الإحالة المعروفة إجرائيا من السلطات المخول لها ذلك دستوريا، أو الدفع بعدم الدستورية الذي يثار بمناسبة منازعة قضائية، والذي لا يزال أيضا يراوح مكانه، وسند ذلك ما يُعرف في فقه القضاء الإداري بنظرية معدومية أو انعدام القرارات الإدارية: ومفادها أن أي قرار إداري يكون مشوبا بعيب المخالفة الجسيمة للقانون، يجعله، ليس فقط قابلا للإلغاء عن طريق الطعن العادي بسبب تجاوز السلطة، بل يوصف فقهيا وقضائيا بأنه قرار معدوم ومنعدم الأثر، وكأن لم يكن، ولا يحتاج الأمر إلا إلى إعلان هذا الوصف بحكم معلن غير منشئ.
[ After Header ] [ Desktop ]
[ After Header ] [ Desktop ]
رابط المشاركة :
شاهد أيضا