حميد بحكاك يكتب: المغرب وتحدي السيادة الرقمية

د.حميد بحكاك*


 

 

“السيادة الرقمية” مفهوم ولد من رحم التحولات التكنولوجية الرقمية وعولمتها، فبعد السيادة الوطنية الذي هو مفهوم دستوري وقانوني ظهر مع الدولة القومية، ويعني أن تمارس الدولة سيادتها الترابية في حدودها الجغرافية المعترف بها والمحددة دوليا، وجاء مصطلح “السيادة الرقمية” الذي يتداخل فيه العالم الجغرافي الملموس والعالم الافتراضي اللامحدود في مساحة جغرافية عبر الشبكة العنكبوتية التي تربط حواسيب العالم فيما بينها، مع ما ينتج عن ذلك من تفاعلات وتشابكات وعلاقات بين الأفراد والجماعات والمجموعات على مستوى العالم. مما دفع الجميع إلى حماية “حدوده” الرقمية والافتراضية والدفاع عنها، من خلال الأدوات التكنولوجيا نفسها وتشريع القوانين الناظمة لهذا المجال الجديد، الذي يشتبك فيه القانوني بالتقني والتكنولوجي في الفضاء الرقمي.
أولا: في التعريف بالسيادة الرقمية
تشير السيادة الرقمية إلى القدرة على التحكم في الفضاء الرقمي بمكوناته من بيانات وأجهزة وبرمجيات، وعلاقات مع الموردين، ويشمل مفهوم السيادة الرقمية “مجالًا واسعًا جدًا، بدءًا من استخراج المعادن النادرة اللازمة لإنتاج المعالجات الدقيقة والمكونات، مرورًا بإنتاج الأجهزة والبرمجيات، وصولاً إلى استغلال البنية التحتية للشبكات، والبيانات، ومراكز البيانات، وحتى البحث الأساسي واكتساب المهارات المفيدة في القطاع الرقمي”1.
بمعنى أن مكونات السيادة الرقمية هي التحكم في البيانات والمعطيات بجميع أنواعها (معطيات شخصية تهم الأفراد وغير شخصية تهم أشخاص معنوية كالإدارات والشركات والمقاولات في القطاعين العام والخاص ) وتوطينها داخل التراب الوطني، و حماية البنية التحتية خصوصا الحساسة والحيوية منها كقطاع الأمن والجيش والدفاع والاتصالات والصحة، و إنتاج البرمجيات والتطبيقات، والعلاقة بين هذه المكونات وتدبيرها، فلم يعد للسيادة الوطنية وجه ترابي وجغرافي فقط وإنما أصبح لها وجه رقمي، فكما أن هناك مجال بحري وبري وجوي وفضائي للدول هناك “مجال رقمي” له خصوصياته ومحدداته وتحدياته وإشكالاته.
ثانيا: السيادة الرقمية رهان استراتيجي على المستوى الدولي
في إطار حماية مجالها الرقمي و سيادتها الرقمية تسعى الدول إلى وضع سياسات وتشريع قوانين وإرساء بنيات تحتية آمنة، وإنتاج تطبيقاتها الخاصة وعدم السماح للتطبيقات والبرمجيات الأجنبية بالولوج إلى مجالها الرقمي أو اختراقه، ولهذا قامت الصين بحظر استعمال “جوجل” google في مجالها الرقمي، وإنتاج محركات بحث خاصة بها، وبريد إلكتروني، يطلق عليها اختصارا BATX (Baidu, Alibaba, TenCent, Xiaomi).
كما تسعى الولايات المتحدة الأمريكية إلى حظر تطبيق التيك توكTik Tok الصيني في أراضيها، أو بيع هذه الشركة للسلطات الأمريكية، وهناك مشروع قانون وضعه الكونغرس في هذا الاتجاه سيطبق ابتداء من يناير 2025، لأنها ترى في هذا التطبيق قوة ناعمة للصين وتهديد للأمن القومي الأمريكي، ومنافسة للشركات العملاقة لها GAFAM . (Google, Amazon, Meta, Apple, Microsoft)
وهناك أمثلة لدول أخرى كروسيا والهند وإيران تسير في نفس الاتجاه، وهذا التسابق نحو حماية السيادة الرقمية دفع هذه الدول إلى إنتاج رقمي محلي وتوطين محلي لبياناتها، من خلال صناعة تطبيقات وبرمجيات ومحركات البحث والإبحار وتطبيقات البريد الإلكتروني محلية الصنع، وإنشاء مراكز بيانات ضخمة Datacenter لأنها ترى في ذلك حماية لسيادتها الرقمية وأمنها الرقمي والقومي.
ونظرا للفجوة الرقمية الكبيرة التي تفصل بين الدول (بين دول الشمال ودول الجنوب) فإن العالم الرقمي الحالي أصبح تحت سيطرة القوى الكبرى كأمريكا وأوروبا والصين، عبر شركاتها العملاقة الموردة للخدمات الرقمية، فإذا قررت دولة ما مزودة للاتصال بشكل أحادي قطع روابط الإنترنت، فإن العواقب على الدول المستقبلة أو المستهلكة ستكون دراماتيكية، كما حدث عند انقطاع الكابلات البحرية الدولية التي تربط غرب أفريقيا بالإنترنت في منتصف مارس 2023، فانقطعت هذه المنطقة عن العالم الخارجي لعدة أيام2،أو كما حدث في مارس 2021، عندما اندلع حريق في مركز بيانات الشركة الفرنسية OVHcloud في ستراسبورغ، مما أدى إلى أثر على مواقع الشركات والمؤسسات المغربية، مثل موقع medicament.ma3.
فمجال الفضاء الرقمي مجال جديد للصراع بين الدول الكبرى كالصين والولايات المتحدة الأمريكية، كما يدور هذا الصراع حول الجيل الخامس والذكاء الاصطناعي وتقنيات الرقائق، وكذلك الصراع والتنافس بين الشركات العملاقة في مجال العملات الرقمية وأسواقها.
ثالثا: السيادة الرقمية في المغرب
يعرف المغرب تحولا رقميا في مجال المال والأعمال والإدارة والاقتصاد والخدمات العمومية، وجعل من هذا التحول رافعة استراتيجية للتنمية والاقتصاد الرقمي وتعزيز التنافسية الاقتصادية، وتقوية دوره على المستوى الجهوي والقاري والعالمي في هذا المجال، ولهذا سطر مجموعة من المشاريع والشراكات والتوجيهات والاستراتيجيات الطموحة، كالمغرب الرقمي 2030 والتي تشكل “السيادة الرقمية” فيه أحد أعمدتها وأهدافها، و”التوجيهات الوطنية لأمن نظم المعلومات” المقدمة من قبل المديرية العامة لأمن نظم المعلومات (DGSSI) و”الاستراتيجية الوطنية للأمن السيبراني 2030″ و”الاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي”، بالإضافة إلى مجموعة من القوانين والمراسيم والقرارات التي تنظم وتحمي هذا المجال، وذلك لخلق بيئة رقمية قوية تعزز مناخ الثقة في مجال المال والأعمال والاقتصاد الرقمي.
رابعا: محددات السيادة الرقمية في المغرب
المحدد التشريعي: توطين البيانات داخل التراب الوطني
لتحقيق السيادة الرقمية، فإن أول خطوة هو توطين البيانات داخل التراب الوطني المغربي، من خلال إنشاء شبكة كبيرة من مراكز البيانات وطنية، ومن خلال المنع القانوني لتوطينها خارج الوطن كما جاء في المادة 11 من قانون رقم 05.20 المتعلق بالأمن السيبراني، التي تنص على “أن يتم إيواء المعطيات الحساسة حصريا داخل التراب المغربي”، وكذلك كل إسناد خارجي (Externalisation) يجب أن يخضع للقانون المغربي، كما نص هذا القانون على الجزاءات والغرامات في حالة إيواء المعطيات الحساسة خارج التراب الوطني، فأي مسؤول عن هيئة أو بنية تحتية ذات أهمية حيوية قام بإيواء المعطيات الحساسة خارج التراب الوطني يعاقب بالعقوبات الجنائية الأشد المنصوص عليها في التشريع الجاري به العمل، وبغرامة من 200.000 إلى 400.000 درهم. (المادة 49).
ومن معايير تأهيل مقدمي “خدمات الأمن السيبراني”، أن يضمن إيواء المعطيات الحساسة المتعلقة بخدمتي رصد وتحليل حوادث الأمن السيبراني ومعالجتها، حصريا داخل التراب الوطني؛ وأن يضمن كذلك استغلال خدمتي رصد وتحليل حوادث الأمن السيبراني وتدبيرها حصريا داخل التراب الوطني (كما جاء في مرسوم رقم 406-21-2 صادر في 4 ذو الحجة 1442 (15 يوليو 2021) بتطبيق القانون رقم 20-05 المتعلق بالأمن السيبراني).
وطالب المشرع المغربي أيضا المؤسسات والمؤسسات وإدارات الدولة والمقاولات العمومية بتصنيف أصولها المعلوماتية ونظمها المعلوماتية وفقا لدرجة حساسيتها وأهميتها.
المحدد التقني والإداري: إنشاء مراكز بيانات، واستعمال تكنولوجيا الحوسبة cloud
إن توطين البيانات والبنيات داخل التراب الوطني هو المظهر الأساسي للسيادة الرقمية، لذلك عملت الدول على إنشاء مراكز بيانات على ترابها. وللمقارنة يوجد وإلى نهاية ديسمبر 2023، 5065 مركز بيانات في العالم، منها 2105 تقع في الولايات المتحدة وحدها، أي أكثر من 41% من البنية التحتية الموجودة (IMIS).
وفي هذا الإطار قام المغرب بإنشاء مراكز بيانات، ففي سنة 2017 تم إنشاء أو إطلاق شبكة “مركز بيانات المغرب” «Maroc Data Center» الأكبر في إفريقيا الناطقة بالفرنسية، لتخزين سجلات الحالة المدنية، وبيانات الصحة، والبيانات العسكرية ومعلومات استراتيجية. وفي ديسمبر 2023 أعلن عن بناء مركز بيانات جديد في النواصر، بمساحة 2000 متر مربع، والذي سيكون جاهزًا قبل نهاية 2024 (شركة N+ONE المورد الرئيسي لمراكز البيانات في المغرب) ويتوفر المغرب إلى حدود سنة 2024 على 23 مركز بيانات معتمد من المستوى Tier الموجودة على التراب الوطني، مما يجعله رائدا على صعيد القارة الأفريقية، ومتقدما على جنوب إفريقيا التي تتوفر على 21 مركزًا.4
ولتعزيز عملية التخزين التجأ المغرب إلى التكنولوجيا السحابية cloud في أفق إرساء “سحابية سيادية” Cloud souverain ، ويقصد بالتكنولوجيـا السـحابية كلاود cloud ” آليـة لتوفيـر خدمـات تكنولوجيـا المعلومـات والبرمجيـات علـى الأنترنيت بـدل جهـاز الحاسـوب الخـاص أو الخـادم المحلـي، باسـتخدام شـبكة مـن الحواسـيب (مزرعـة خـوادم) بعيـدة عـن المسـتخدم ويتـم إيواؤهـا علـى الأنترنيت” (رأي المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي: التكنولوجيا السحابية (cloud) رافعة استعجالية لتسريع التحول الرقمي، إحالة ذاتية رقم 2023/71 )
وحسب تشخيص المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي في إحالة ذاتية حول التكنولوجية السحابية، لا زال المغرب يعرف تعثرا في مجال تكنولوجيا السحابية لمجموعة من الأسباب، منها ضعف ثقافة التكنولوجية السحابية لدى المسؤولين عن المقاولات والشركات إذ يفضلون التسيير الداخلي للبيانات والبرمجيات، وكذلك هناك سبب الكلفة الطاقية وغياب أو ضعف الكفاءات والخبرات، وعدم اكتمال تصنيف البيانات حسب حساسيتها الأمنية والاستراتيجية.
خامسا: تحديات السيادة الرقمية
التحدي الأمني: الفضاء الرقمي هو فضاء للتنافس بين الدول والمنظمات والشركات العالمية، حيث تتزايد المخاطر والحوادث: كاختراق شبكات الاتصال لأغراض التجسس، وتغيير البيانات الحساسة أو السيطرة على البنى التحتية ذات الأهمية الحيوية، وحملات التأثير على الإنترنت وتوجيه الرأي العام لإحداث قلائل اجتماعية أو التأثير في الانتخابات من خلال اختراق وسائل ووسائط التواصل الاجتماعي، التي تهدف إلى إحداث تغييرات في اختيارات الناس وتوجهاتهم. فعلى سبيل المثال تعرض المغرب خلال سنة 2024 لهجمات إلكترونية، إذ تم الإبلاغ عن 644 هجوما تطلبت 134 منها تدخلات ميدانية 5.
وكذلك احتكار سوق الحوسبة السحابية من طرف الشركات الأمريكية والصينية، وحتى أوروبا لا زالت تعتمد على الموردين الأمريكيين، مما يطرح تحدي الاستقلال التكنولوجي في مجال تكنولوجيا السحابية، وتحدي تشريعي في مدى التزام الموردين الأجانب بقانون زبنائها أو شركائها، بالإضافة إلى مكان توطين البيانات، مما يتطلب تكنولوجية سحابية سيادية من حيث البنيات والتوطين والتشريع، وهو الحجر الأساس للسيادة الرقمية.
خلاصة:

لا توجد سيادة رقمية مطلقة، فالحدود لا يمكن رسمها وتحديدها أمام تشابك الفضاء السيبراني ودخول أكثر من طرف في هذا الفضاء، كما أن الاعتماد على الخبرة الأجنبية وبشروطها، يجعل من الصعب تحقيق استقلال تكنولوجي كامل إن على مستوى التجهيزات والتطبيقات والبرمجيات والقوانين المطبقة، والمطلوب هو بناء أساسيات وإرساء بنية تحتية وتكوين خبرات وطنية وتشجيع البحث العلمي والتكوين في هذا المجال وجعله أولوية استراتيجية، والإسراع في تصنيف الأصول الرقمية والمعلوماتية من بيانات ومعطيات ووثائق، والعمل والتعاون والشراكة مع الفاعلين والخبراء، والاستفادة من التجارب والممارسات الدولية الناجحة، لتحقيق السيادة الرقمية كضمان للأمن السيبراني والقومي.
*باحث في القانون الدستوري وعلم السياسة
[email protected]
مراجع:
1,2- SOUVERAINETÉ NUMÉRIQUE : POURQUOI LE MAROC NE PEUT Y CHAPPER, POLICY PAPER, L’Institut Marocain d’Intelligence Stratégique (IMIS) p 8.
3 ,4 – Soufiane CHAHID : Data center, Epine dorsale d’une souveraineté numérique en gestation
https://www.lopinion.ma/Data-centers-Epine-dorsale-d-une-souverainete-numerique-en-gestation-INTEGRAL_a54806.html , Samedi 1 Juin 2024
5 – تصاعد الهجمات الإلكترونية ضد المغرب الاخبار | العدد 3633 الثلاثاء 19 نونبر 2024)

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.