كل أحزاب العالم التي تؤمن بالمشاركة السياسية والمنخرطة في العملية الديموقراطية تضع نصب عينها الفوز بالمراتب الأولى وتصدر المشهد السياسي. وهذا الحلم أو الرغبة لا يمكن لأي كان أن يصادرها ويخص بها حزبا دون آخر أو فئة دون أخرى، وإلا وقعنا في الإقصاء السياسي الذي يؤمن بالديمقراطية حين تكون مخرجاتها لصالح الفئة المحظوظة ويرفضها عندما تكون نتائجها لفائدة المعارضة الإسلامية بوجه خاص.
فهذا السؤال منهجيا في أساسه خاطئ ومنطلقه أيضا لا أساس له من جميع النواحي الدستورية والقانونية والسياسية و التنظيمية، فغاية الأحزاب من خلال مشاركتها السياسية هي تنزيل سياستها وبرامجها السياسية وتصوراتها لقضايا المجتمع وانتظاراته ولا يتاتى هذا دون مشاركتها في تولي قيادة الشأن المحلي والجهوي والوطني. ومن السذاجة بمكان أن يجعل البعض من وظيفة الأحزاب مجرد منشط للبطولة وتأثيت للمشهد السياسي دونما القيام بالفعل والأثر السياسي المطلوب، كما أنه من الغباء أن يعمل حزب على المشاركة في الانتخابات وحصر آماله في حدود معينة، سواء تم تسطيرها له أو أن سطرها لنفسه من خلال تقليص مشاركته وحصرها في دوائر محددة حتى لا يتصدر المشهد السياسي.
في هذا المقال سنحاول الإجابة على سؤال حول حاجة ورغبة الحزب تصدر المشهد السياسي الى منهجية وآلية تنظيمية ومسطرية من أجل التصريح به وإقراره؟
طبيعة الهدف ومشروعيته السياسية والتنظيمية؟
إن تصدر المشهد السياسي تحصيل حاصل وغاية الغايات للمشاركة السياسية كما سبقت الإشارة إليه، وهو أمر لا يحتاج تصورا ليؤطره، أو منهجية معينة ومسطرية خاصة ينطوي عليها التصريح بهذا الحلم، إلا في حالات خاصة يمكن التفصيل فيها لاحقا.
فالتصريح بالفوز والتفوق في الاستحقاقات والمباريات وجميع المنافسات ديدن كل مشارك، لكن النتائج هي التي تحدد موقع كل واحد. وهنا يجب التذكير باالأحلام السابقة ل 8 شتنبر 2021 والتي بالغت في التوقعات والأماني مما شكل صدمة نفسية كبيرة لدى عموم أعضاء الحزب ومتعاطفيه ولدى فئة عريضة من الشعب المغربي التي فقدت الثقة في العمل السياسي بشكل عام وفي الأحزاب السياسية خصوصا، كل ذلك نتجت عنه شبه مسلمة عند بعض قيادات الحزب السابقة مفادها أن الحزب انتهى ومات ولم يعد له أي وزن سياسي يذكر. ومن خلال هذه المسلمة المغلوطة والتي لا تميز بين الوزن السياسي والوزن الانتخابي وتجعلهما متلازمان لا يفترقان، و هنا وجب التذكير بضرورة الرجوع لسؤال المنهج والتصور والتنظيم واالغايات والأهداف من المشاركة السياسية.
في هذا الإطار فإن الذي يؤطر مشروعية هذا السؤال هو سؤال المرجعية ومصلحة البلاد، أي هل البلد في حاجة إلى حزب العدالة والتنمية أم لا ؟ وما هي الإضافة النوعية التي يقدمها الحزب للمشهد السياسي ؟
كان الأمين العام للحزب يؤكد دائما على أن الحزب غايته دعم مؤسسسات الدولة والمساهمة في الإصلاح في حدود المتاح، ولا يخفى على كل متتبع فطن دور هذا الحزب في المشهد السياسي وما يقدمه من خدمات في مجال دعم المؤسسة الملكية وإمارة المؤمنين والتي تتعرض باستمرار لهجوم خارجي وداخلي مستمر. وكذلك من خلال ضخ الروح في جسد العملية الديمقراطية التي تشكو من أعطاب وانحرافات عديدة جعلت منسوب الثقة يتدنى إلى أدنى مستوياته على مر تاريخ المغرب. ومن جهة أخرى تفعيل الأدوار الدستورية للأحزاب ووظائفها في تأطير المواطنين وفتح عيونهم حول الشأن السياسي وربط المسؤولية بالمحاسبة الانتخابية والقانونية.
إن المؤطر لهذا الهدف يدخل في الإطار العام للمشاركة السياسية، أما ما يجب أن يخضع للنقاش التصوري والمنهجي هو كيف تكون هذه المشاركة وماهية القواعد والشروط التي تنظم هذه المشاركة وليس في مخرجاتها.
فالمشاركة حاصلة وليس هناك أي مشكل على حد علمنا لدى عموم اعضاء الحزب حول جدواها من عدمه، لكن الذي يجب مناقشته هي حول تنطيم العلاقات بين مكونات المشهد السياسي دولة وأحزابا ومجتمعا مدنيا وهو ما يجب إخضاعه للنقد والتمحيص.
فشعار “النضال من أجل مصداقية الاختيار الديمقراطي وكرامة المواطن” والتي صادق عليه المجلس الوطني للحزب تدخل في هذا الإطار، بمعنى انه يطرح سؤال حول شروط ممارسة هذه المشاركة وضمان شفافية ومصداقية نتائج العملية الانتخابية بحيث تكون مخرجاتها معبرة عن الاختيار الشعبي وخريطة سياسية حقيقية وليست مرتبة ومفصلة على مقاس محدد.
وإذا كانت أعلى هئية تشريعية في الحزب قد وافقت على هذا التصور حتى ولو شابته شائبة، فلا ينقص ذلك من مصداقيتها وقوتها القانونية والتنظيمة، ومن يروج لمقولة ضرورة مصادقة المؤتمر عليها وإمكانية تغييرها، فيمكن اعتبار هذا نقاشا تبسيطيا أو تعجيزيا، لسبب أن المؤتمرات لا تتاح فيها النقاشات التصورية ولا يمكن ان يخرج عنها تصور واضح، فالنقاشات الهادئة تتم في اللجان المختصة بالمجلس الوطني والذي يضم خبراء الحزب وأطره ومتخصصيه، على عكس المؤتمرات التي تهتم بالجانب المسطري في عمومها من خلال المصادقة من عدمها .
هل يحق للحزب الحلم بالمرتبة الأولى ؟
إن حزب العدالة والتنمية ليس حزبا جديدا على الساحة السياسية، وليس حزبا بسيطا يفتقد للوسيلة التنظيمية والكفاءات التي تجعله يركن إلى الزوايا ويستجدي فثات الموائد وزوائدها، بل هو حزب قاد الحكومة لعشر سنوات متوالية وخبر دواليبها ومطباتها، وليس لدى أعضائه أي مركب نقص تجاه العودة إلى مواقع تدبير الشأن العام المحلي والجهوي والوطني في ظل النتائج السلبية والمخيبة للآمال على جميع الأصعدة للمدبرين الجدد، وإن كان فشل النخبة المدبرة للبلد ومؤسساته ليس مناسبة للتشفي، فإنها مدعاة للفخر لنخبة الحزب التي خرجت بنتائج إيجابية وبشهادة براءة الذمم من الفساد وبشرف نظافة اليد.
كما أن حزب العدالة والتنمية ورغم مخرجات 8 شتنبر أصبح القوة السياسية الأولى على الساحة السياسية ومتصدرا للمشهد السياسي بدون منازع، ومن ينظر إلى هذا الحزب سيعتقد بدون ادنى شك أنه أكبر حزب بالمغرب حضورا إعلاميا وتاثيرا على النقاش السياسي، مقابل اغلبية حكومية صامتة وفاقدة للبوصلة. كما أن حضور المجموعة النيابية للحزب على مستوى البرلمان يسير في نفس الاتجاه من خلال التأثير والفاعلية ولم تنعكس الثمثيلية العددية على القوة والحضور .
ونستغرب أن ينسى أو يتناسى البعض كل هذا الإنجاز الكبير ويستكثر على قيادة هذا الحزب والتي كان لها الفضل الكبير في هذه النتائج أن تحلم بتكرار هذا الإنجاز .
هل تملك قيادة الحزب سلطة طرح فكرة تصدر المشهد السياسي؟
لا أحد ينكر أن تجديد قيادة الحزب وتولي الأمين العام ورئيس حكومة دستور 2011 للحزب القيادة من جديد، خلق دينامية كبيرة داخل هياكل الحزب، وعاد الحزب بشكل تدريجي لموقعه من خلال التفاعل الإيجابي مع جميع القضايا المحلية والدولية وتجاوز مرحلة الصمت التي بصمت مرحلة ما بعد البلوكاج. واستطاعت قيادة الحزب ضمان انعقاد هياكل الحزب بشكل عادي وتجديد الدماء فيها، مما يوفر كل الشروط الداخلية والتنظيمية من أجل تفعيل مشاركة الحزب في العملية السياسية بنفس إيجابي ومتجدد.
لذلك فطرح فكرة تصدر المشهد السياسي تاتي ثمرة لهذه الدينامية ومحاولة لتتويج وترجمة هذا الجهد إلى فوز انتخابي بعد الفوز السياسي، أما طرح سؤال إعادة إنتاج البلوكاج فهذا ليس له أثر على عمل الحزب ولا يجب أن يؤثر ويتبط عزائم مناضليه،كما يقول الأمين العام للحزب “كل واحد يدير شغلو” وبعدها فالحزب حر في اتخاذ ما يلزم في حالة بلوكاج ثان وهذا لا يعني الاستسلام للقدر المحتوم لدوائر مقاومة الإصلاح التي تشتغل ليل نهار من أجل تحجيم الحزب وشيطنته بل والدعوة إلى حله، ومن ثمار هذا العمل هي زرع مثل هذه الافكار ونشرها وسط مناضلي الحزب والتخويف من مألات التمسك بقيادة الحزب واستمراريتها تحت هذه الذرائع والأوهام .
ويخطئ من يجعل الرهان على اعتبار الانتخابات استحقاقا سياسيا ذا أولوية بقدر ما هي محطة مرحلية نتائجها تترتب عليها قراءات متعددة تنظيمية وسياسية يجب ان تخضع بين الفينة والأخرى للتقييم واستخلاص العبر، لكنها ليست ملزمة بالتوقف وتحميل المسؤولية لجهات مجهولة أو معلومة والتباكي او تبرير النتيجة بالجهل وعدم الفهم .
فالنتيجة كيفما كانت تتحكم فيها عناصر متعددة، ولكن أمنية تصدر المشهد متجذرة وتسري في جينات كل الأحزاب السياسية الجادة والتي تمتلك مشروعا مجتمعيا ونية صادقة في الإصلاح والتغيير، وكل صبغي للحزب ينبض بنفس الفوز بالمرتبة الأولى، لكن ترجمة ذلك يحتاج إلى رجال يؤمنون بذلك ويصدقونه وليس مجرد أحلام أو تجليات.
كما أن التلويح دوما بالوضع الخارجي الذي صبح أسطوانة مشروخة وفزاعة، يجب أخذ العبرة من طوفان الأقصى ونتائجه، فلا يمكن لأحد أن يملي على الشعوب ولا على الأحزاب ما يجب أن تتخذه من مواقف وتوجهات تحت ذرائع التوازنات وموازين القوى. فالكل حر في اختيار مواقعه وتحمل عواقب ذلك وتبعاته، ولكل موقف نتائج قد تختلف قراءتها من زاوية النظر إليها، فما يراه البعض هزيمة يمكن أن ينظر إليه البعض الآخر بأنه نصر مؤزر.
ومن حسنات قيادة هذا الحزب امتلاكها للفهم الدقيق للوضع السياسي الوطني والمحيط الخارجي وتفاعلها بالشكل المناسب مع كل الأحداث والمحطات إلى حد هذه اللحظة بالشكل المناسب والناجح، ولا يمكن تجاهل الإشادة الكبيرة للعقلاء داخل وخارج الوطن بقيادة هذا الحزب والتقدير الذي تحظى به على جميع المستويات .
خلاصة القول إن هذه العناصر المشار اليها تسائل كل من يحاول مصادرة حلم قيادة حزب العدالة والتنمية بتصدر المشهد الساسي من جديد وهو حلم مشروع، ولا يوجد مبرر قانوني أو تنظيمي يلزم قائد فريق أو حزب من تمني الفوز على منافسيه في حلبة السياسة أو الرياضة أو غيرها .