من أشهر مقولات الفيلسوف الفرنسي فولتير قوله: “إذا أردت أن تعرف من يتحكم بحياتك، فعليك أن تفكر في الجهة التي لا يمكنك انتقادها”، فإذا رجعنا إلى الاحتجاجات الطلابية المناصرة للقضية الفلسطينية في العالم فسنجد أن هناك إجماعا على قمعها، سواء في الدول التي تدعي الديمقراطية وحقوق الإنسان كالدول الغربية، وسواء الدول التي تدعي أنها إسلامية مناصرة للقضية، كما أن مشاهد قمع نضالات الطلبة في الغرب ذكرنا بمشاهد قمع الأصوات المعارضة في بقية بلدان العالم، نفس الضرب والركل والسحل، ونفس الاعتقالات والتهديدات. ما يعني أن شعوب العالم محكومة بحكومة واحدة، وأن التقسيم الحقيقي للاجتماع البشري الحالي هو أقلية حاكمة تستقوي بمؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية والقضائية لفرض قراراتها وقمع كل جهة رافضة، وأغلبية محكومة خاضعة لقوانين وقرارات الأقلية الحاكمة، وتعدم الوسائل الكفيلة للدفاع عن رأيها.
لكن قد يطرح البعض منا سؤالا، هل هذا التقسيم حصري بزماننا هذا أم أنه امتداد لواقع سياسي مرتبط بخصوصيات الاجتماع البشري؟
منذ فجر التاريخ، ومنذ اهتداء البشرية إلى الدولة كوسيلة لتنظيم الاجتماع البشري، برز احتكار الدولة لوسائل الضبط والإكراه، واحتكار النقاش العمومي وقمع كل من تخول له نفسه نقد سياسات الحاكم أو الخروج عنها، بما يضر بمصالح النخبة الحاكمة، وهذا ما أدى إلى اضطهاد الأنبياء والرسل والمصلحين عبر التاريخ، والذين يتحدثون بلسان شعوبهم المقهورة، وينشدون التحرر من استبداد الدولة واستعباد طواغيتها وظلم حاكميها.
فسيدنا إبراهيم عليه السلام تعرض لمحاولة اغتيال بالنار في شبابه في ظل الحضارة البابلية، وسيدنا موسى عليه السلام تعرض بدوره مع بني إسرائيل للتقتيل والتشريد والنفي من طرف الامبراطورية الفرعونية، كما أن سقراط حكم عليه بالموت من طرف دولة أثينا التي تفتخر بأنها ديمقراطية، وسممت سقراط بعد أن اتهمته بتسميم عقول الشباب، كما أن سيدنا عيسى عليه السلام تعرض لمحاولة اغتيال، بتنسيق ومشاركة بين اليهود والامبراطورية الرومانية التي انزعجت من دعوته الاصلاحية.
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لم يسلم بدوره من قمع السدة الحاكمة في قريش، فتعرض لشتى أنواع الحصار والتضييق، ولفقوا له الاتهامات بالسحر والجنون، حتى إن لم يجدوا وسيلة لإسكاته، تآمروا على قتله فخرج مهاجرا مع من آمن من قومه. كما أن الصحابة والتابعين والمصلحين الذين شهدوا الانقلاب على مبدأ الشورى في الخلافة الاسلامية واستبداله بالملك العضوض وشرعية القوة والغلبة، تعرضوا للاغتيال والنفي والسجن والحصار، وهو ما كان سبب فتنة المسلمين، حيث استبدت دولة بني أمية بالحكم، وأغلقت نقاش سياسات الدولة على الفقهاء والعلماء والتابعين، فاكتفوا بنقاش الأمور الفقهية والاجتهادية بدل القضايا السياسية.
نفس القمع تكرر مع دعاة الإصلاح الديني في أوروبا في القرون الوسطى، واتهم الفلاسفة والعلماء بالزندقة والالحاد لرفضهم أفكار الكنيسة التي كانت تمنح الشرعية الدينية للطبقة الأرستقراطية الحاكمة. لكن هذا الإصلاح الديني أثمر حركة إنسية وحركة ثقافية، ونهضة علمية وثورة سياسية أزاحت الكنيسة والأرستقراطية عن سدة الحكم لتحل محلها الطبقة البرجوازية الرأسمالية.
هنا تحدث نيتشه قائلا: “مات الإله … احذروا الدولة” بمعنى أن سلطة الكنيسة (الإله) لم تعد قائمة وحلت محلها سلطة الدولة الحديثة التي تتدخل بدورها في أدق تفاصيل الحياة اليومية للناس، وتشرع لهم وتصنع لهم القوانين.
هذه الدولة التي حذرنا منها نتشه، أصبحت شيئا فشيئا لقمة سائغة في فم الشركات العملاقة والأبناك العالمية، والتي غدت ميزانيتها أكبر من ميزانيات الدول، وهو ما جعل لها سلطة جديدة في العالم، فها هي ذي تقوم بشراء النخب، والتدخل في السياسات الاقتصادية للدول، لدرجة أنها أصبحت قادرة على إشعال الحروب بين الدول لضمان مصالحها وامتيازاتها، كيف لا وهي التي كانت وراء الحملات الإمبريالية الاستعمارية للشعوب والدول الفقيرة لاستنزاف خيراتها واستعباد شعوبها، وتنافسها وراء الهيمنة على العالم وخيراته هو من أشعل حربين عالميتين كان ضحيتها ملايين البشر.
هذه الحروب كانت وسيلة لحسم النفوذ على العالم، وتقسيم مساحات الهيمنة، فالمنتصرون في الحرب العالمية الثانية هم من أشرفوا على تأسيس نظام سياسي واقتصادي دولي، يقودون به العالم ويخضعونه لمصالحهم، وكان من إفرازات هذا النظام الدولي تأسيس الكيان الصهيوني بقلب العالم الاسلامي لاستدامة الاستعمار والتفكيك والاستغلال والتبعية والتخلف بهذا المجال الجيوسياسي الذي يحمل أفكارا مناهضة لهذا النظام العالمي.
هذا النظام العالمي كان قائما على ثنائية قطبية، شرق وغرب، ما يميز الشرق (روسيا والصين) عن الغرب (أمريكا بريطانيا فرنسا) هو أن دول الشرق ومن يدور في فلكها ما تزال فيه للدول سلطة على الشركات، فهي خاضعة لنفوذها ولقوانينها، عكس الدول الغربية التي تسير اقتصادها بمنطق السوق المفتوح والنيوليبرالية، حتى غدت هذه الدول الغربية ومؤسساتها الأمنية والعسكرية والإعلامية خدما لمصالح الشركات متعددة الجنسيات والأبناك العالمية.
هذه الثنائية القطبية سرعان ما تحولت لأحادية قطبية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، لينفرد الغرب بقيادة العالم باستثناء الدول التي رفضت الخضوع لسلطته (روسيا، الصين، إيران، كوريا الشمالية)، والدول الراغبة في الحصول على استقلال ولو جزئي تتعرض لشتى أنواع الإخضاع والضغوطات، ابتداء من الحصار الاقتصادي (تركيا) مرورا بالاغتيالات السياسية للزعماء والانقلابات العسكرية (تشيلي، الأرجنتين، البرازيل…) وانتهاء بالغزو العسكري والاجتياح البري (فلسطين، أفغانستان، العراق،…)
أما بلداننا العربية والاسلامية فأغلبها محكوم بأنظمة سياسية استبدادية تابعة مباشرة لهذه الحكومة العالمية، بل صنعت على يديها، ودعمتها لتحصل على شرعية مفتقدة ضدا في اختيارات الشعوب المقهورة، فأغلب هذه الأنظمة العربية والاسلامية جزء لا يتجزأ من المنظومة الغربية، وهو ما يفسر هرولة بعضها للتطبيع، وتقديم بعضها الآخر لخدمات جليلة للصهاينة في ظل معركة طوفان الأقصى.
هذه الحكومة العالمية تتبنى دين الرأسمالية، الذي يقوم على عقيدة تلبية الغرائز، وعبادة الاستهلاك، ومعبدها هو السوق، وقيمها الفردانية والنفعية، وفلسفتها البراغماتية، إنه الدين الذي يتدين به أغلب البشر دون أن يدروا، إنه دين يجعل من الحكام آلهة فوق النقد والمساءلة، ناسين أن الله تعالى هو الوحيد الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، دين يشرعن للحكام التحكم في رقاب الناس كما كان يدعي نمرود بابل أنه يحي ويميت، وأن لهم ملك البلاد والعباد كما قال فرعون مصر ذات يوم: أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي. إنه دين يجعل من الشعوب يدا عاملة لإنتاج القيمة وفائضها، وسوقا لاستهلاك منتجات هذه الرأسمالية.
من أوراد دين الرأسمالية هذه التغني بخطابات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، والحقيقة أنها يافطات لتبرير الاحتلال والاستغلال، فها هي ذي ماتزال تخط بمداد الدم سجلها في الإجرام لحدود كتابة هذه الأسطر، وطوفان الأقصى عرى هذا الواقع الإجرامي لهذه الحكومة العالمية التي بنت حكمها على الظلم والاستعباد والاستغلال والاستبلاد، وعرى كذلك نفوذها في العالم، فكل النضالات المناصرة للقضية الفلسطينية تتعرض للقمع والاضطهاد، لأن هذه النضالات لا تكشف فقط زيف تناقضات الخطابات الأخلاقية لهذه الحكومة العالمية، بل تكشف عن مدى تحكمها في مصائر العباد، ومدى استنزافها لخيرات الشعوب واستغلالها لخدمة مصالحها الخاصة، فهو قمع أزال ما تبقى من غطاء عن حكومة الشر العالمية التي تحكم العالم، ففي جل الدول التي عرفت نشأة الرأسمالية، يمكنك أن تنتقد الحكومة ومؤسسات الدولة وحتى رئيسها كيفما شئت، لكن لا يمكنك انتقاد الصهيونية ورموزها وسياساتها، ففعلا هي الجهة التي تتحكم في حياة أغلب البشر في لحظتنا هذه.
إن كانت الامبريالية أعلى مراتب الرأسمالية، فإن الصهيونية أعلى مراتب الامبريالية، وإن كان نتشه قد قال “مات الإله …احذروا الدولة”، فيمكننا أن نقول “ماتت الدولة…احذروا الشركات”، وعملية التحرر من حكومة الشر العالمية تنطلق بكشف زيفها وتعرية جرائمها، ونحن اليوم نعيش عصر التحرر من قبضة الاستعمار والاستعباد والاستبداد والاسبلاد، ومهما طال الزمن أو قصر، لابد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر.