تعلَّمْنا في الجامعةِ أنَّ “الصَّمتَ حِكمةٌ”، وتعلَّمْنا أيضًا أنَّ “حِكمةَ الصَّمتِ تنتهي حينَ يَستوجبُ الكلامُ”.
وقد قال تعالى:
{ولا تَكْتُمُوا الشَّهادةَ ومَن يَكْتُمها فإنَّه آثِمٌ قلبُهُ} [البقرة: 283].
الشاهدُ عندي في هذه المقدِّمة، ما نَشهدهُ من ضَجيجٍ صاخبٍ يُطالعُنا صوتًا وصورةً عبرَ مواقعِ التواصُلِ الاجتماعي…
بابٌ مُشرَعٌ لِلغطٍّ، وانتقادٍ، وتَجريحٍ، وتَقريعٍ، وغاياتُهُ كثيرةٌ، عنوانُها الكبير:
> “لا يا بَنكيران”
“حَشومة يا بَنكيران”
“علاش يا بَنكيران”
“اصمُت يا بَنكيران”…
صار عبدُ الإلهِ بنكيران في فُوَّهَةِ بُركان، رغم أنَّهُ لا يَملكُ اليومَ سوى سُلطَةِ الكلمةِ، والبَوحِ، والفَضح…
وبكلمةٍ: عَجيبٌ أمرُنا في هذا الوَطَن!
نُسلِّطُ سِهامَ النَّقدِ نحوَ مَن لا سُلطَةَ له، ونتعامى عن صانِعِ القَرارِ الفعليِّ…
نَتَناسَى – عَمدًا أو جَهلًا – مَن يَملكُ الزِّمامَ اليومَ، ومَن يَتصدَّرُ المشهدَ ويَقودُ الحكومة، ونتَلقَّفُ كلماتِ المُعارِضِ ونُقيمُ لهُ المَشرحة…
في الواقع: “شي حاجة مَركباش”!
ففي مغربِ اليومِ، وحيثُ كنَّا نُمنِّي النَّفسَ بديمقراطيةٍ عادلةٍ بعدَ دستورِ 2011، نجدُ أنفسَنا في مَشهَدٍ – بل مَسلسلٍ – سياسيٍّ مُقلق، ليس فقط بسببِ غِيابِ النقدِ، بل بسببِ اختلالِ معاييرِه، وازدواجيةِ موازينِه.
مُفارقةٌ جارحةٌ تتكرَّر:
تُطلَقُ نيرانُ النَّقدِ على المُعارضة، وتُغطَّى الحكومةُ بستارٍ كثيفٍ من الصمت، كأنَّها فوقَ المُحاسبة.
وقد قال تعالى:
{يا أيها الذين آمنوا كونوا قَوَّامين بالقِسطِ شُهَداءَ لله ولو على أنفُسِكم} [النساء: 135].
لستُ في موقفِ الدفاعِ عن بنكيران، ولا في مقامِ التبريرِ لأيّ ماضٍ أو خطاب، لكنَّ ما نَراهُ اليومَ يَتجاوزُ حدودَ النقدِ البنَّاء، ويدخلُ مربَّعَ التصفيةِ الرمزية.
يُحمَّلُ الرجلُ وِزرَ كلِّ شيء، وتُستنفرُ الأقلامُ والمنابرُ كلَّما تكلَّم، وكأنَّ المطلوبَ منه أن يَصمُت، أن يُنسى، أن يُمحى!
أمَّا الحكومةُ،
فتمضي في قراراتٍ مَصيريَّةٍ تَمسُّ قوتَ المغاربةِ اليوميِّ، دون محاسبةٍ جادَّة، سوى من بعض المواقعِ المُحايدة، وبعضِ البرلمانيين الذين بَحَّتْ حناجرُهم، ومواطنينَ بُسطاءَ اكتَوَوا بنارِ الغلاء.
وقد قال أحدهم:
وَلَسْتُ أَرى السَّعادةَ جَمعَ مالٍ
وَلَكِنَّ التَّقيَّ هوَ السَّعيدُ
وتَجتَنِبِ الفَواحِشَ لا تَقربَنَّها
كَذٰلِكَ الدِّينُ والخُلُقُ الرَّشيدُ
رفعٌ مُتكرِّرٌ للأسعار، تقليصٌ في دعمِ القطاعاتِ الاجتماعية، وتغاضٍ مُريبٌ عن تضارُبِ المصالح…فضيحةُ “دَعمِ الرَّخويَّات”، مثالٌ ساطعٌ على هذا العَبث!
أليس من المُفارقاتِ العجيبةِ أن يترأسَ الحكومةَ رجلُ أعمالٍ معروفٌ، يَمتلكُ مجموعةً اقتصاديةً ضخمةً، ويَنشُطُ في قطاعاتٍ حيويَّة؟
أليس من حقِّ المواطنِ أن يتساءل:
هل تُؤثِّرُ هذه المصالحُ على القرارِ السياسيِّ؟
أين الشَّفافية؟ أين رِقابةُ المؤسسات؟
قال تعالى:
{ولا تَأكلوا أموالَكم بينكم بالباطلِ وتُدْلوا بها إلى الحُكّامِ لِتَأكلوا فريقًا من أموالِ الناسِ بالإثمِ وأنتم تعلمون} [البقرة: 188].
شركاتٌ مُقرَّبةٌ من دوائرِ القرار تتحكَّم في الصفقات، والإعلام، والاستثمارات…
بينما يُقصى المواطنُ ويُحرَمُ من الحقِّ في المعرفةِ والمحاسبة.
لقد صار من الجليِّ أننا أمامَ “تحصينٍ غيرِ مُعلَن” لرئيسِ الحكومةِ ومَن حولَه، تحصينٍ سياسيٍّ وإعلاميٍّ، يُبعِدُهم عن دائرةِ المساءلة، ويُوجِّهُ النقدَ كلَّه نحو المعارضة، كأنها المسؤولةُ الوحيدةُ عن الأزمة.
لا نَطلُبُ حِمايةً لبنكيران أو لغيره، فهو “فَرَّان وقاد بحومتو”،
لكننا نَطلُبُ عدالةً في النقد، في التنويه، في الخطاب.
لا تَنهَ عن خُلُقٍ وتَأتي مِثلَهُ
عارٌ عليكَ إذا فَعَلتَ عظيمُ
المُعارضةُ تُساءَل؟ نعم.
لكن الحكومةَ أَولى بالمحاسبة، لأنَّها تُصدِرُ القراراتِ، وتَملكُ السُّلطةَ، وتُؤثِّرُ في حياةِ الناس…
وحتى لا ننسى، فقد سعت جحافل من هذا الشعب في شتنبر 2024 – في ظل هذه الحكومة – إلى العبور نحو الضفة الأخرى، في سابقة موجعة ومبكية في تاريخ هذا الوطن، رغم المخاطر…
والسبب؟ تصاعد الضغوط الاقتصادية والاجتماعية ليس إلا.
إن التغاضي عن تضارُبِ المصالح، والاكتفاء بتلميعِ الصورةِ دون ملامسةِ الجوهر، أعراضٌ لأزمةٍ عميقةٍ في الضميرِ السياسيِّ والإعلاميِّ.
وقد صدق اللهُ إذ قال:
{فأما الزَّبدُ فيذهبُ جُفاءً، وأمَّا ما يَنفعُ الناسَ فيمكُثُ في الأرض} [الرعد: 17].
وبالجُملة:
حين يُسلَّطُ النَّقدُ على مَن لا يَملك، ويُرفعُ عن مَن يَملك، تُصبِحُ تلكَ الممارسةُ تزكيةً للظُّلمِ، لا مقاومةً له.
حين يُسلَّطُ النقدُ على المعارضة، ويُرفعُ عن الحكومة، تُصبِحُ تلك الممارسة استثناءً مضحكا /مبكيا ، يصلح أن ندخل من خلاله إلى كتاب جينيس وللأسف !