الدريسي يكتب: الديمقراطية ثقافة وسلوك وليست شعار وادعاء (نقاش مع الصديق رئيس المجلس الجماعي بالرشيدية)

*محمد الدريسي الكاتب الإقليمي لحزب العدالة والتنمية بالرشيدية يكتب:*


 

الديمقراطية رهان أساسي محدد لنهضة المجتمعات وتقدم الدول، هكذا تعتقد النخب السياسية الحقيقية المنبثقة من رحم الشعب؛ فالديمقراطية بلا شك هي المدخل الحقيقي للارتقاء بالمشهد السياسي والتنموي على السواء؛ والأكيد أنه لا يمكن اختزالها في عمليات تقنية وفي صناديق اقتراع مهما كانت درجة النزاهة التي تحيط بها. فالديمقراطية تنبني أولا على قيم الحرية والمسؤولية وحماية الحقوق الفردية والجماعية، وتوفير ضمانات العدالة والإنصاف، إنها ثقافة قبل أن تكون أرقام.
لذلك شهدت الحضارة الإنسانية تطورات في النظريات والمقاربات والآليات، التي تحاول الجمع بين الجوانب الفكرية والقيمية والجوانب التقنية والمنهجية للديمقراطية. ولعل اللجوء لآليات الديمقراطية التشاركية كمحاولة لتجاوز عيوب الديمقراطية التمثيلية من أبرز تلك التطورات المعاصرة.
غير أن المشهد السياسي المغربي أصبح ينتج ظواهر ملتبسة وهجينة، من خلال نماذج (أو لنقل بروفايلات) من “السياسيين” و”المنتخبين” الذين إما يستعملون الديمقراطية واجهة ليس إلا، أو يحتكرون الحق في استعمالها لضرب الخصوم. فمنهم من يجتهد في استعمال شعارات الديمقراطية بشكل جاهز ومعلب وبراق على واجهات عمل حزبي أو تدبيري غارق في التخلف والبؤس إن قسناه بمعيار القيم الديمقراطية الحقيقية، فتصبح الديمقراطية غلافات شكلانية تغطي على قواعد تنظيمية مليئة بالتحكم والريع والمصالح، كما هو الشأن عند حزب إداري ترعرع في حضن المخزن، وتعود نزول أمنائه العامين ومسؤوليه بالمظلات والتعليمات بل بالتعيينات أحيانا؛ ومنهم طيف آخر لا زال يحن لزمن الاستئصال والخطاب الشوفيني الذي عمر ردحا من الزمن في الساحات الجامعية وأثبت تناقضه وتهافته وعدم قدرته على الامتداد في المجتمع.
مناسبة هذا الكلام، هو الهجوم المتكرر من طرف رئيس المجلس الجماعي للرشيدية (خلال أشغال الدورات وكان أخرها اليوم 07 ماي 2025) على حزب العدالة والتنمية بمنطق متعال وإقصائي متهما إياه بأنه ينتمي لـ ” مرجعية لا تؤمن بالديمقراطية”. ورغم أني أربأ برئيس المجلس ـ الذي تربطني به شخصيا علاقة صداقة واحترام ـ أن يكون ضمن الظواهر التي تحدثت عنها، إلا أنني لم أجد تفسيرا بعد، لهذه الهجومات التي تستهدف الحزب ومناضليه جميعهم.
والحقيقة أن رئيس المجلس نصب نفسه في مقام تقييم لتجربة حزبية، وهو بذلك في وضع لا يحسد عليه، لأن سلوكه في ذلك المقام لا ينسجم مع السياق الذي يوجد فيه، ولا يحترم أبسط أبجديات المنطق العلمي والموضوعية، ويبدو أنه يتولد من خلفيات إيديولوجية تقفز أحيانا من فكره بشكل واع أو لاواع.
فالديمقراطية عند حزب العدالة والتنمية ليست شعارا (كما صادفه ربما رئيس المجلس في تجارب له)، وإنما هي فكر ومبادئ وقيم يستنشقها أعضاء الحزب في جميع أنشطتهم وتجمعاتهم ومساطرهم وتصرفاتهم بالمهام والمسؤوليات؛ وربما آخر نموذج لذلك الاستنشاق الجميل، تجسد في المؤتمر الوطني التاسع للحزب. أتحدث بكامل الثقة وبدون غرور، لأنني عشت أزيد من 25 سنة مناضلا في هذا الحزب، حرا في التفكير والتعبير، ومسؤولا في الانضباط للقرارات والعمل المؤسسي.
أما من حيث المرجعية، فأذكر الصديق الرئيس بأن حزب العدالة والتنمية وحزب الاستقلال الذي ينتمي إليه حاليا، تجمعهما نفس المرجعية، فهل هي زلة لسان أو لاوعي ناطق ينم عن ارتياب في الانتماء !! كما أذكره أن المرجعية الإسلامية مرجعية للدولة بنص الدستور، فهل يمكنه اتهام الدولة بأنها “رجعية” وغير مؤمنة بالخيار الديمقراطي رغم أنه من المبادئ الدستورية !!!
وبما أن المناسبة شرط، فتجربة حزب العدالة والتنمية في تدبير جماعة الرشيدية قدمت صورة راقية عن المناخ التداولي الديمقراطي، تجربة يصعب على أي كان المزايدة عليها ديمقراطيا؛ ولمن نسيها أو تناساها، يمكنه الرجوع لتسجيلات الدورات خلال الولايتين السابقتين، حيث كان النقاش السياسي المحتدم، الذي لم يكن دائما هادئا، ولكنه بالتأكيد كان يتم باحترام لحرية الرأي؛ ولازلت أذكر في هذا الصدد، دفاع الرئيس آنذاك على حق أعضاء المعارضة في النقاش والتداول، إلى درجة خرق النظام الداخلي للمجلس ومنح وقت مطول أحيانا لهم، وصل في بعض دورات الميزانية إلى قرابة 30 دقيقة لعضو واحد؛ فما الذي يجعل المجلس الحالي يضيق بتدخلات المعارضة على قلتها !!!
ولعل تجربة البث المباشر التي لقيت استحسان الرأي العام، وقربت أشغال الدورات من جميع المواطنين، لعلها كانت من علامات الثقافة الديمقراطية، فما الذي جعلكم تمنعوه الأخ الرئيس !!!
إن الفكر الإقصائي الاستئصالي، الذي يحاول تصوير نفسه مالك الديمقراطية والحداثة، استنفذ أغراضه المشبوهة، وتجازوه الزمن والمجتمع، لأن الممارسة والواقع كشفا حقيقة تلك الادعاءات ومثيلاتها، التي شهدنا كيف استثمرها البعض للتخويف من مشاركة حزب العدالة والتنمية في الحكم.
وبالعودة للمصطلح والمرجعية، فرغم أن كلمة “ديمقراطية” ذات أصل إغريقي، إلا أن حضارتنا الإسلامية متشبعة بقيم ومعاني الحرية والمسؤولية والمحاسبة، والحقوق والعدل والمساواة والشورى، وغيرها من المصطلحات التي تشكل روحا حقيقية للثقافة الديمقراطية؛ ونحن نؤمن بتلاقح الحضارات وتكاملها، رغم أن الأدبيات الغربية ـ بمركزيتها المقيتة ـ تحاول دائما القفز على إسهامات الحضارة الإسلامية في رقي البشرية في جميع المجالات.
لقد أنتج حزب العدالة والتنمية تجربة متميزة في العمل المؤسسي المسؤول، المبني على قيم الديمقراطية والشورى، بالاستناد إلى الثوابت الوطنية وفي مقدمتها المرجعية الإسلامية والملكية والوحدة الترابية. وعندما نقول تجربة متميزة فهذا لا يعني أبدا أنها تجربة مثالية خالية من الأخطاء والاختلالات، فكل تجربة إنسانية تعتريها كبوات وأعطاب، لكن التجارب القادرة على الصمود والاستمرار، هي تلك التي تمتلك مقومات التصحيح والتطوير من داخلها، ومن بين تلك المقومات ما يرتبط بالديمقراطية الداخلية.
هي رسالة للأخ الرئيس ولكل من لازالت تراوده شكوك في اقتناع حزب العدالة والتنمية بمبادئ الديمقراطية، أقول لهم: يمكنكم البحث في اتجاه آخر لنقد تجربة هذا الحزب؛ فنحن نقبل الاختلاف وفي حاجة للنقد، الذي نفضل أن يكون بناء لما فيه خير أحزابنا ووطننا، على قاعدة: التعاون في المشترك والاختلاف برقي.

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.