الخطاب السياسي عند الأغلبية الحكومية بين الدفاع عن السياسات العامة وتهديد المعارضة

هشام امساعدي


 

يُنْظَرُ إلى المعارضة السياسية في النُّظُم الديمقراطية بأنها رافعة أساسية للبناء السياسي والاجتماعي، وتعزيز مبدأ التداول على السلطة وسيادة الشعب. ورغم كون المعارضة أقلية سياسية داخل قبة البرلمان، إلا أن الأدوار التي تضطلع بها في فرض الرقابة على الحكومة ومساءلتها وتوجيه النقد لها، وفي تقديم البدائل والإجابات السياسية الكفيلة بحل الأزمات ومواجهة التحديات الداخلية والخارجية، تُرغم الأغلبية الحكومية على احترام مبادئ الدستور عند ممارسة السلطة التنفيذية، حيث تشعر بأنها مراقبة من قِبل هيئة منتخبة موازية، تمتلك الحق في التدخل في أي وقت لاستجواب رئيس الحكومة ووزرائه في شأن يخص التدبير الحكومي.
ما يعني أن المنتخبين في المعارضة أو في الأغلبية الحكومية يتحملون جميعا مسؤولية تدبير الشأن العام. وَلَئِنْ اختلفتْ مواقعهم بالبرلمان، فإنها تَصُبُّ في غاية واحدة وهي خدمة الشعب، وتحقيق أكبر قدر من المطالب المجتمعية.
وحين تضغط المعارضة البناءة على مكونات الأغلبية باتجاه حملها على تنفيذ التزاماتها المُسطَّرة في البرنامج الحكومي، أو حملها على مراجعة سياساتها العمومية احتراما لإرادة الناخبين وخدمة للصالح العام، فإنها تُسهم في دعم روح الشفافية والوضوح في تدبير الشأن العام من قِبل أعضاء الحكومة ومجموع المنتدبين من لدنها. كما تُسهم من جهة أخرى في تنمية البلاد وبناء الوطن بشكل جماعي تعددي، وتدفع نحو مزيد من التغيير والإصلاح في ظل الاستقرار. وبذلك، تتحول المعارضة البرلمانية القوية إلى سند حقيقي للأغلبية الحكومية في حفظ الأمن والاستقرار، وفي مواجهة التوترات الاجتماعية التي قد تنجم عن بعض الإجراءات التي تتخذها الحكومة، أو بعض الاختلالات في التدبير في شأن من شؤون الدولة والمجتمع. وبالمقابل، يشكل ضعف المعارضة السياسية تهديدا محتملا لاستقرار البلاد.
ولا تسلم العلاقة بين الطرفين من التوتر والتنازع حول السياسات العامة في جميع الديمقراطيات بالعالم، لأن ما تعتبره المعارضة من صميم صلاحياتها في مراقبة عمل الحكومة ونقد سياساتها بصورة واضحة وبنَّاءة، تراه الأغلبية نزوعا من المعارضة نحو عرقلة العمل الحكومي، ودعاية سياسية هدفها التأثير في الرأي العام لخدمة مصالحها الانتخابية في المستقبل. بيد أن هذا التوتر في العلاقة بين الطرفين، لا يحمل الحزبَ الحاكم أو الأحزابَ الحاكمة على تهديد المعارضة أو إقصائها من البناء السياسي والاجتماعي، وإن امتلكت أغلبية مريحة لتمرير البرامج والقوانين.
ذلك أن أي تحييد سياسي للمعارضة الصادقة أو تقزيم لدورها الرقابي والسياسي، سيُفرغ العملية السياسية من محتواها الديمقراطي في التدافع السلمي، وسيكون محاولة مكشوفة من الحزب الحاكم للهيمنة على مؤسسات الدولة وبناء الوطن برأي واحد أو مقاربة واحدة، مع التحفظ على عبارة بناء الوطن لأنها ملازمة للأمن والاستقرار في الثقافة السياسية. ومع مرور الوقت، تضعف الثقة في الحكومة وفي خطابها السياسي.
والمتتبع للخطاب السياسي لدى أحزاب التحالف الحكومي (التجمع الوطني للأحرار؛ والأصالة والمعاصرة؛ والاستقلال) بمجلسي النواب، خاصة في السنتين الأخيرتين من عمر هذه الحكومة، يسجل ملاحظتين عامتين:
ـــ من حيث الشكل: هناك نكوص غير مسبوق في مستوى الخطاب السياسي لدى مكونات هذه الحكومة. وزراء يختبئون خلف الأجوبة الكتابية التي تُدَبَّجُ لهم في دواوينهم، ولا يستطيعون التفاعل المباشر مع الأسئلة والتعقيبات الآنية؛ وآخرون يجدون صعوبة بالغة في قراءة نص باللغة العربية (أبنائنا وأبناتنا)؛ وثالثُهم رئيسُهم الذي وجد خَلَاصَهُ في الصمت والتهرب من جلسات المساءلة الشهرية، حيث تشير الإحصاءات إلى أنه حضر 18 جلسة فقط من أصل 32 جلسة بمجلسي النواب والمستشارين. وهو ما يطرح السؤال حول كفاءة النخبة الحزبية التي تمثل أو أُريد لها أن تمثل المغاربة بقبة البرلمان: هل نحن فعلا أمام “حكومة الكفاءات” كما ادعى المبشِّرون بالعهد الجديد في الانتخابات التشريعية 2021؟
ـــ من حيث المضمون: لا يحمل الخطاب الحكومي ــ في مجمله ــ معالم واضحة بخصوص السياسات العامة. يمكن القول إنه خطاب رواية شفهية لحصيلة مشرقة في الإصلاح ومحاربة الفساد والريع، وتسويق لإنجازات وهمية حول الدولة الاجتماعية ومغرب التنمية، لا يجد لها المواطن المغربي أثرا واضحا على أرض الواقع، بل يمكن القول إنه بات خطاب تهديد للمعارضة كما حصل في الجلسة الشهرية الأخيرة. ما يزيد من توسيع الهوة بين السياسات القطاعية المعتمدة وانتظارات المواطنين، ويفاقم أزمة الوساطة بين الدولة والمجتمع. كل ذلك من شأنه أن يغذي جذور العزوف السياسي عند الشباب، ويعمق امتداداته عند شرائح جديدة من المجتمع في قادم الانتخابات. وهناك من يرى أن صناعة العزوف بهذا النوع من الخطاب السياسي المتدني هو مقصود لذاته، خدمة لأجندة انتخابية في المستقبل.
ضعف الخطاب السياسي لدى التركيبة الحكومية الحالية في الدفاع عن السياسات العمومية، ليس المظهر الوحيد للأزمة السياسية بالمغرب، بل وازاه ضعف في الأداء والممارسة عند عدد من الوزراء والمنتدبين، وعجل برحيلهم في التعديل الحكومي الذي أشرف عليه جلالة الملك في 23 أكتوبر 2024. وباستثناء بعض الوجوه في الأغلبية التي تجدها حاضرة بقوة في البرلمان، وحاضرة في بعض البرامج التلفزية والإذاعية، فإن عددا من الوزراء باتوا يفضلون عدم المواجهة مع أطراف المعارضة.
هذا الضعف المركب استثمرته أحزاب المعارضة (متمثلة بالخصوص في حزب العدالة والتنمية، والحركة الشعبية، والتقدم والاشتراكية) في تأطير النقاش العمومي بالبرلمان، وبالفضاءات الإعلامية الوطنية ومنصات التواصل الاجتماعي. وجريا على العرف السياسي، فالحكومة المسؤولة التي تمتلك الأغلبية العددية وتمتلك السلطة التنفيذية، هي التي توجه النقاشات السياسية والقانونية وتجر المعارضة خلفها، لكن في الاستثناء المغربي الحكومة تتبع المعارضة. فهل نكون محقين إذا استنتجنا أن النقاش حول السياسات العامة أصبح حلقة مفقودة عند أحزاب الأغلبية؟
الجواب نعم. وخير دليل على ذلك الجلسة الشهرية الأخيرة التي عقدها مجلس النواب المغربي يوم الاثنين: 07 يوليوز 2025، والتي خُصصت للأسئلة الشفهية الموجهة إلى رئيس الحكومة “عزيز أخنوش” حول السياسة العامة لحكومته، فيما يتعلق بالسياسة الصحية والحماية الاجتماعية. “أخنوش” استعمل خطابا سياسيا لا يخلو من تهديد مُبَطَّن للمعارضة باستعمال نفوذه في تعطيل النشاط الاقتصادي بالبلاد، في حال إصرارها على إثارة موضوع تضارب المصالح لدى وزراء رجال أعمال في حكومته. وهو ما أثار موجة من السخط الشعبي حول هذا التصريح غير المحسوب من رئيس حكومة، والذي يتحدث وكأن رئاسة الحكومة هي امتداد لإحدى شركاته. ما حذا ببعض المراقبين إلى القول: “ليته تغيب عن هذه الجلسة الشهرية هي الأخرى، لكان أسلم له من هذه الزلة التي ستكون لها تبعات”.
دون مبالغة، أحزاب المعارضة البرلمانية اليوم هي التي تتفاعل بكثرة مع نبض الشارع المغربي، وتسجل المواقف حول عدد من القضايا المرتبطة بالسياسات العامة للحكومة: رفض التطبيع مع الكيان الصهيوني؛ محاربة تضارب المصالح؛ الدفاع عن مجانية التعليم والتطبيب؛ تعميم الحماية الاجتماعية؛ توسيع مجال الدعم الاجتماعي؛ إيقاف مهرجان “موازين”… وهذا مظهر ثالث من مظاهر ضعف الحكومة المغربية الحالية، يضاف إلى ضعف خطابها السياسي وضعف الأداء. ما يجعل هذه الحكومة في عين كثير من المراقبين هي أضعف الحكومات منذ عقود.
غير أن إثارة أحزاب المعارضة لهذه الهموم الشعبية، وتحريكها لمياه المشهد السياسي المتكلِّسة، لا يعني أن أداء المعارضة بخير مقارنة بأحزاب التحالف الحكومي. ولكنه في الوقت نفسه دليل قوة وتعافٍ خاصة بالنسبة لحزب العدالة والتنمية، بعد عملية الإزاحة التي تعرض لها في انتخابات 08 شتنبر 2021.
فرغم استعادة المعارضة جزءًا من المبادرة السياسية والاستقطاب الجماهيري، إلا أن خطابها السياسي لا يتجاوز حد النقد، ويفتقر إلى تقديم الحلول ووضع البرامج البديلة. ومازالت المعارضة غير قادرة على التنسيق بين مكوناتها للوقوف في وجه السياسات الحكومية، بسبب استمرار الانقسامات بينها. ومن المستبعد جدا أن تتكتل في جبهة موحدة لمواجهة تغول الحكومة في المستقبل القريب، بسبب الحسابات الحزبية الضيقة. وخير مثال على ذلك، الخلاف حول ملتمس الرقابة لإسقاط الحكومة الذي دعا إليه الكاتب الأول لحزب “الاتحاد الاشتراكي” مؤخرا، ورفَضه حزب العدالة والتنمية بحجة أنه قرار انفرادي، رافقه ترويج لمعلومات غير صحيحة من قِبل “إدريس لشكر”.

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.