الإقصاء السياسي في الوظيفة العمومية.. انتكاسة دستورية وضربة لمصداقية الديمقراطية

بقلم عبد النبي اعنيكر


تعود إلى الواجهة من جديد إشكالية حياد الإدارة في مباريات التوظيف العمومي، وهذه المرة من بوابة جهة كلميم وادنون، حيث أطلقت الكتابة الجهوية لحزب العدالة والتنمية ناقوس الخطر، منبهة إلى ما اعتبرته “إقصاءً ممنهجاً” يطال مناضلي الحزب بسبب انتمائهم السياسي. بلغة شديدة الوضوح والحزم، حمل البيان الصادر في 17 يوليوز 2025 اتهامات صريحة بوجود تمييز حزبي في مباريات التوظيف والارتقاء المهني، مما يشكل، بحسبه، خرقاً للدستور وتراجعاً عن روح المساواة والإنصاف التي تؤسس للمواطنة في مغرب اليوم.

ليس مستغرباً أن تحتج هيئة سياسية على ما تراه ظلماً تجاه أعضائها، لكن الخطير في هذا البيان أنه يستند إلى “معطيات دقيقة وشهادات متعددة”، ترسم صورة قاتمة عن واقع التنافس في مباريات عمومية حساسة، على غرار التوظيف في المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين، ومباريات ولوج مسلك الإدارة التربوية والجماعات الترابية. وإذا صح أن آليات مثل “البحث المحيطي” تُستغل خارج نطاق الكفاءة، فذلك يعني أننا أمام خلل بنيوي يفرغ هذه المباريات من مضمونها التنافسي، ويحولها إلى مجرد واجهات لإضفاء شرعية على خيارات مسبقة.

الانتماء الحزبي، الذي من المفترض أن يكون أحد مظاهر التعددية السياسية التي يضمنها الدستور المغربي، يبدو -وفق مضمون البيان- وكأنه تحول إلى “تهمة غير منصوص عليها قانوناً”، تجرّ على أصحابها الإقصاء والتهميش، بدل أن تُعامل كحق يكفله الدستور. وهو ما يشكل انقلاباً صامتاً على مسار طويل من النضال لأجل تكريس دولة المؤسسات وسمو القانون.

إن نفي حياد الإدارة في التوظيف العمومي لا يمس فقط مناضلي حزب بعينه، بل يوجه ضربة مباشرة إلى ثقة المواطنين في مؤسسات الدولة. وإذا ما أصبح الشعور السائد أن نتائج المباريات تخضع للانتماء السياسي أكثر من الكفاءة والجدارة، فإننا نكون قد فتحنا باباً واسعاً على مصراعيه أمام الإحباط، والعزوف عن المشاركة، بل وربما التشكيك في جدوى الانخراط في العمل الحزبي والمؤسساتي من الأصل.

من المؤسف أن نضطر في مغرب 2025 إلى تكرار المطالبة بالبدهيات: الحياد، الشفافية، تكافؤ الفرص، واحترام الدستور. وهي كلها مطالب لا تُعد “مزايدات حزبية”، بل أساسيات في أي تجربة ديمقراطية تحترم نفسها وتطمح للتقدم. ولعل ما يزيد من خطورة الوضع أن هذا النوع من الممارسات –إن ثبت فعلاً– يتعارض بشكل صارخ مع توجهات جلالة الملك محمد السادس، الذي جعل من تخليق الحياة العامة وربط المسؤولية بالمحاسبة ركيزتين في خطبه وتوجيهاته.

إن دعوة الكتابة الجهوية لحزب العدالة والتنمية إلى تدخل عاجل لوقف هذه التجاوزات، وإعلانها دعم المتضررين وخوض المعارك الإدارية والقضائية للدفاع عن حقوقهم، تعيد النقاش إلى المربع الأول: هل نعيش فعلاً في دولة تحكمها المؤسسات والقانون؟ أم أن بعض الأجهزة والإدارات لا تزال تختزل الولاء للوطن في الولاء لتيارات معينة دون غيرها؟

الإدارة العمومية ليست غنيمة سياسية، ولا ينبغي لها أن تكون أداة تصفية حسابات أيديولوجية. كل مغربي، أياً كان انتماؤه السياسي، من حقه أن يتنافس على مناصب الدولة على قدم المساواة، في ظل معايير واضحة لا تحتمل التأويل أو التحيّز. وهذه مسؤولية الدولة أولاً وأخيراً، أن تضمن أن يكون التوظيف حقاً وليس امتيازاً.

لقد آن الأوان لأن يُفتح هذا الملف بجدية، وأن يُفعّل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة في وجه كل من يستغل موقعه الإداري أو السياسي للإضرار بحقوق المواطنين. فالمغاربة لم يعد بإمكانهم تحمّل المزيد من الانتكاسات على مستوى الثقة، ولا من مزيد من الاستهتار بنص وروح الدستور.

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.