في تقديري وحسب ما تكشفه متواترات الأخبار، فإنه لم يحدث في تاريخ المغرب السياسي، أن شهد المغرب حكومة تحاصرها الفضائح من كل جانب وفي كل حين، كما هو حاصل اليوم.
لقد أضحت هذه الحكومة وتحالفها كرأس الأقرع “فين ما ضربتيه إسيل الدم”، حتى أننا لا نستطيع حصر تلك الفضائح أو عدها أو ترتيبها وتبويبها.
فالتسريبات الأخيرة تورط وهبي، وخرجته الإعلامية التي لا ينفي فيها محتوى تلك التسريبات واكتفى بــ “تخراج العينيين” مشيا على عادته في الاستفزاز، والتي ختمها بادعائه في البرمان، ضمان دخول الجنة وتنصيب نفسه “الحادي عشر” من المبشرين بالجنة، والتسريبات أيضا التي تلاحق خليفته في أمانة حزب التراكتور الوزيرة والعمدة، والتي بدورها خرجت ببيان توضيحي لا يوضح شيئا ولا ينفي اتهاما، وقبلهما فضيحة رئيس الحكومة غير المسبوقة ربما في تاريخ الممارسة السياسية في العالم، حين دافع بوجه “قصديري من العصر البرونزي”، وفي مؤسسة دستورية من حجم البرلمان على تورطه في تضارب مصالح فاضح ومكشوف يتعلق باستفادة شركته من صفقة تحلية مياه البحر بالدار البيضاء، دون أن يرف له جفن، وأكملها بتهديد المغاربة أنهم لو استمروا في فضح تضارب المصالح والمطالبة بحوكمة الصفقات وإعمال الشفافية فيها، فإنه هو والمستثمرين الذي يعرفهم وربما له سلطة عليهم سيوقفون الاستثمار في هذا البلد.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه، كيف يمكن لحكومة رغم هذه الفضائح المجلجلة وتنامي المتابعات في صفوف نخبها سواء في البرلمان أو الجماعات، وتفصيل المناصب العليا على مقاس الأحباب والخلان وربما الخليلات، كيف لها أن تستمر كأن شيئا لم يقع، بل أن يمتلك أعضاؤها الجرأة بل الوقاحة للدفاع عن “المنكر” الذي يغرقون فيه إلى أخمص أقدامهم؟
من أين يستمد هؤلاء كل هذه الجسارة، ولا يكثرون بما يلاحقهم في كل مكان وفي كل حين من فضائح، تكفي لاستقالة حكومات وتفتح متابعات في حق أعضائها؟
لو كنا في بلد مكتمل البنيان في ديمقراطيته لكان مصير حكومة أخنوش أن تذهب إلى حال سيبيلها منذ الأيام الأولى لتنصيبها، بعد أن اتضح أنها حكومة نكوص وتراجع عما راكمه المغرب في مجال محاربة الفساد، وجرأتها على سحب قانون تجريم الإثراء غير المشروع، لم يكن إلا البداية في الكشف عن وجهها القبيح وتوجهها في التصالح مع الفساد ودعمه وتنميته، وحماية المتورطين فيه والذين تلاحقهم شبهات بخصوصه.
لتضح الصورة بوضوح في منع الجمعيات بشكل قانوني من الترافع ضد الفساد ورفع الدعاوي أمام القضاء، من خلال تعديلات المسطرة الجنائية، دون الحديث عما جاءت به تعديلات المسطرة المدنية.
يعتقد الرأسمال أن سلطته لا حدود لها، وأنه كما دانت له الأسواق يجب أن تدين له السياسة ورقاب الناس، فهو لا يفرق بين السوق وبين الانتخابات والديمقراطية، فكلاهما لعبة مفتاحها المال وانتهى الكلام.
وحين يسود هذا المنطق، فأنه ينتج خطابا وسلوكا في قمة الرعونة والاستعلاء على الجميع، مادام في خُلد هؤلاء أن القوة الحقيقية والتي تصنع الفارق هي المال، والذي يضمن النجاح في السياسة كما في الاقتصاد وغيرهما هو القرب ورضى الرأس المال، والذي سيكفل الحماية من المحاسبة هو دفاتر الشيكات ومواقع النفوذ وشبكات المصالح الممتدة التي تخترق الإدارة والمؤسسات، وبها تصنع التحالفات وتدار المصالح وتطوع القوانين حسب القرب والبعد من مراكز القرار.
كان الراحل مالك بن نبي يقول “عندما تتحول الدولة إلى أداة في يد المال، تنطفئ القيم وتُختزل الأمة إلى سوق”، وكان المرحوم محمد عبد الجابري في نقده للعقل السياسي العربي يقول “السلطة حين تفقد مشروعيتها تبحث عن شرعيتها في المال، وعندها تسقط السياسة في السوق”، وفي كل هذا تجسيد لنبوءة بن خلدون في مقدمته قبل قرون “إذا تعاطى السلطان التجارة فسد السوق”.
إننا في منعطف خطير بالنسبة لبلدنا، لإن إمساك الرأسمال بتلابيب السياسة، والإمعان في تطويعها لمنطق السوق، منذر بخراب العمران على حد تعبير بن خلدون رحمه الله، ويجب على عقلاء هذا البلد أن يستبقوا هذا المجهول الذي يتربص بالجميع قبل فوان الأوان، وفك الارتباط بين الرأسمال والسياسة، وتخليص هذه الأخيرة من الهيمنة التي يفرضها اليوم عليها الرأسمال، وتحويلها الى سلعة خاضعة لمنطق العرض والطلب.
السياسة حين تُمارس بأصولها تكون مضنة لزرع الثقة في المؤسسات، وعاملا حاسما في صنع جاذبيتها، وبالتالي تكون مناطا يحقق انخراطا واسعا للمواطن في الشأن العام وفي صلب السياسات العمومية التي تنتجها المؤسسات المعنية، وهذا هو الهدف الأسمى بل الأصل الذي من أجله وُجدت السياسة.
فحينما تقع كل هذه الفضائح والموبقات وتتفجر المتابعات وملفات الفساد، ورغم ذلك تستمر الأمور كأن شيئا لم وقع، فإننا نرسل الرسائل الخطأ للأجيال الشابة التي أصلا هي في هامش الحياة السياسية نتيجة الإحباطات الاجتماعية والإقصاء الاقتصادي، وندفعها لركوب المجهول وربما لا قدر الله نصنع منها لقمة سائغة لتيارات وأفكار هدامة لا أحد يمكن أن يتنبأ بمداها في الخطورة أو الشذوذ.
فهل بعد الذكرى من مدكر؟؟ !!!
رابط المشاركة :
شاهد أيضا
