ماهر الملاخ.. إعلامي/ الدوحة
بعد أكثر من قرن على وعد بلفور، الذي مهّد لمأساة فلسطين، تقرر بريطانيا أخيرًا أن تعترف بدولة فلسطين. خطوة وُصفت بأنها تاريخية، لكنها تطرح سؤالًا لا مفر منه: هل هي بداية لتصحيح خطأ عمره 108 أعوام، أم مجرد رفع عتب متأخر، جاء بعد أنهار الدماء التي سالت في غزة والضفة، وضغط رأي عام شعبي لم يعد يحتمل التواطؤ.
هذه الخطوة لم تولد في مكاتب السياسة وحدها، بل خرجت من رحم الدماء والتضحيات، ومن ضغط رأي عام بريطاني لم يعد يحتمل استمرار كل ذاك التواطؤ. ولهذا كان وقعها مدويًا: ترامب رأى فيها تهديدًا مباشرًا، ونتنياهو اعتبرها “جائزة للإرهاب”.
إن لهذا الاعتراف أربع دلالات حاسمة:
تاريخية: اعتراف ضمني بخطأ بريطاني عمره قرن كامل.
سياسية: رسالة أن سياسة فرض الأمر الواقع الإسرائيلي لم تعد محصّنة حتى عند الحلفاء التقليديين.
دولية: تأكيد أن حل الدولتين لم يُدفن بعد، وأن تجاهله أصبح مكلفًا.
رمزية: إشارة أن الدم الفلسطيني قلب المعادلة، وأن الرأي العام قادر على صناعة التحولات.
لكن السؤال الملح: إلى أين يمضي هذا الاعتراف؟
قد يقودنا إلى إحياء الحل، إذا ما تبعته اعترافات أوروبية كبرى، فيُعاد الاعتبار لحل الدولتين وتُفرض عزلة دولية غير مسبوقة على حكومة نتنياهو. وقد يبقى اعترافًا معلّقًا يمنح الفلسطينيين دفعة معنوية دون تغيير ملموس على الأرض، فيما يستغله اليمين الإسرائيلي لتشديد قبضته. بل قد ينقلب إلى الأسوأ، أي إلى دفن الحل، إذا ردّت إسرائيل بمزيد من القمع والضم والاستيطان بدعم أميركي، فتحوّل اللحظة إلى رمز مستنزَف لا أكثر.
ولكي يُرجَّح المسار الأكثر تفاؤلًا على الأكثر تشاؤمًا، يبقى الفارق بيد المجتمع الدولي أولًا، ثم بيد الفلسطينيين أنفسهم. عليهم أن يحوّلوا الاعتراف إلى قوة دفع عملية عبر أربعة استحقاقات واضحة:
– انتزاع العضوية الكاملة في الأمم المتحدة.
– تفعيل ملفات الجرائم أمام المحاكم الدولية.
– توسيع التحالفات مع الرأي العام الغربي.
– توحيد الصف الوطني على برنامج جامع يثبت للعالم أن فلسطين ليست مجرد قضية عادلة، بل دولة تستحق أن تقوم.
حين نعود إلى تجربة جنوب أفريقيا، نجد أن التحوّل لم يبدأ إلا حين تحوّل الضغط الشعبي الغربي إلى قرارات سياسية جريئة: مقاطعة، عزلة دبلوماسية، واعتراف بشرعية نضال الأغلبية السوداء. لم تُسقط حكومة الفصل العنصري بفعل قوة داخلية فقط، بل بفعل تراكم الاعترافات الدولية والعقوبات التي كسرت شرعيتها. واليوم، يبدو الاعتراف البريطاني بفلسطين لحظة مشابهة: خطوة تحمل إمكانات التغيير إذا تحوّلت إلى سلسلة من الإجراءات الضاغطة، لا إلى مجرد بيان رمزي. وكما احتاجت جنوب أفريقيا إلى إرادة داخلية موحَّدة لتوظيف الدعم الخارجي، يحتاج الفلسطينيون اليوم إلى وحدة وطنية وبرنامج سياسي جامع يجعل من الاعتراف رافعة لا صفحة عابرة.
الاعتراف البريطاني بدولة فلسطين لحظة مفصلية، لا شك في ذلك. لكنه سيبقى معلقًا بين رمزية التصحيح التاريخي وهاجس رفع العتب السياسي. فهل يكون حقًا بداية لتصحيح خطأ بلفور بعد 108 أعوام من الإنكار والانحياز؟ أم يُترك ليتحول إلى صفحة عابرة في سجل المناورات الدبلوماسية، تُضاف إلى سلسلة طويلة من الوعود المجهضة؟ الجواب لن تحدده لندن وحدها، بل سيتوقف على إرادة المجتمع الدولي، وعلى قدرة الفلسطينيين أنفسهم في تحويل هذه اللحظة إلى فعلٍ حي يعيد الاعتبار لحقهم المسلوب.
ماهر الملاخ/إعلامي- الدوحة
