نبيل شيخي
تتحوّل، مع الأسف، هامشٌ من احتجاجات شبابية، بدأت بسلمية واضحة، إلى وقائع عنف وتخريب تُهدّد المعنى العادل للمطالب وتستنزف ثقة الناس في جدوى التعبير المسؤول، وهو ما استوعبه الشباب حينما أكدوا رفضهم القاطع لأي انزلاق يمسّ الاستقرار ويشوّه المطالب والقضية الأصلية. إن إشارة التعقّل هاته تعبر عن وعي بميزان الشرعية باعتبار كل ما يقوّض أمن المجتمع يُخصم فوراً من رصيد أي حركة احتجاجية مهما سمت شعاراتها وصدقت دوافعها.
هذه المحطة تفرض خطاباً متوازنا في المسؤولية يستحضر مسؤولية المحتجّ في صيانة السلمية وأخلاق الفضاء العام، ومسؤولية الدولة في تطويق التوتر بالمعنى السياسي والحقوقي لا الأمني وحده. فالأصل في هذا الحراك أنه نطق بما تراكم طويلاً في الهوامش والحواضر من إخفاقات الخدمات الأساسية، وعلى رأسها الصحة والتعليم وفرص العيش الكريم، واستشراء الفساد، وما نجم عن ذلك من شعور فادح باللاجدوى لدى أجيال ترى المستقبل ينكمش كلما اتسعت الفجوة بين الوعود والواقع.
إن قراءة أي هدوء محتمل بوصفه نهاية المطاف أو “عودة إلى السيطرة” ستكون خطأً مكلفاً، لأن الأسباب البنيوية لم تختفِ، ولأن انسحاب الشباب إذا تأكد واستمر سيكون خطوة حكيمة، لحماية سلمية المطالب، ولا يجب أن يُفهم ذريعةً للركون إلى إدارة الأزمة بالإنكار أو بالمسكنات.
المطلوب اليوم وقفة دولة لا وقفة حكومة فاقدة للمشروعية ومتجاوزة، لم ينبس رئيسُها ولا وزاءها ببنت كلمة منذ انطلاق الحراك. المطلوب مبادرةٌ سياسية اجتماعية شاملة تُشعر المجتمع بأن اليد الممدودة من الشارع لوقف النزيف ستجد يداً مقابلة تُحسِن الإصغاء وتتعهدُ وتنجز. ترجمةُ ذلك تبدأ بحزمة إجراءات اجتماعية عاجلة تعيد ترتيب أولويات الإنفاق بما ينسجم مع سقف المطالب الاجتماعية، وببرنامج شفّاف يوضح كلفة الفرص وتوازنات الاستثمار بين الاستحقاقات الكبرى والمصالح الحيوية والآنية واليومية للمواطن. ويوازي ذلك مسار سياسي حقوقي يبدأ بمراجعة الاعتقالات وضمانات المحاكمة العادلة والتحقيق المهني العلني في حوادث التعنيف المبلغ عنها، بما يعيد الطمأنينة إلى المجال العام ويؤكد أن سيادة القانون ليست شعاراً ظرفياً.
ولئلا تتكرر الدورة نفسها، يلزم نقل النقاش المجتمعي إلى قنوات الإعلام العمومي وفتح قنوات مؤسساتية دائمة مع الشباب ومنظمات المجتمع المدني، تُدوّن المطالب لتحوّيلها إلى التزامات بآجال واضحة ومؤشرات قياس معلنة، مع تقييم دوري مستقل يجسد ويرسخ ربط المسؤولية بالمحاسبة. ذلك وحده ما يجعل الأمل سياسة عمومية لا حالة نفسية عابرة، ويبدّد الانطباع بأن القطيعة بين المجتمع والهيئات الوسيطة قد صارت قدراً لا يُدفع.
لقد قدم الشباب فرصة للبلاد كي تتقدم خطوة نحو الرشد: فضّلوا السلمية على الانزلاق، وحماية الوطن على مكاسب اللحظة. والاستجابةُ الواجبةُ اليوم أن تبادلَهم الدولة الإشارةَ بإشارة من خلال مبادرة شجاعة شاملة مؤطرة زمنياً تُعيد ترتيب البوصلة، وتوفر شروط استرجاع الثقة في السياسة وترد الاعتبار والميزان للسياسات الاجتماعية، وتضع حداً للهوّة المتسعة بين وعود الغد وأوجاع اليوم.
بين وهم “السيطرة” وقيمة الإصلاح فارقٌ في المصير: الأول يراكم الغضب تحت السطح، والثاني يفتح نافذة أمل قابلة للقياس. والبلاد، بما فيها من حكمة وتجربة، قادرة—إن أُحسِن الإصغاء—على أن تجعل من هذه المحطة الأليمة بداية لمسار يكفر عن الخطايا ويصحح الاتجاه قبل فوات الأوان.
