حميد بحكاك، باحث في علم السياسة والقانون الدستوري
منذ 7 أكتوبر 2025 تكون مرت سنتين على “عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023″، التي أطلقتها حركة المقاومة الإسلامية “حماس” مع مجموعة من الفصائل الفلسطينية، ردا على سياسة الاحتلال الإسرائيلي لأكثر من سبعين سنة في فلسطين عامة وغزة خاصة (17 سنة من حصار غزة منذ 2006)، هذه العملية كانت لها تداعيات وآثار دراماتيكية إن على المستوى الداخل الفلسطيني وتداعيات على المستوى الإقليمي والدولي، وخلال سنتين بعد هذه العملية والمستمرة إلى حدود كتابة هذه السطور نستعرض مجموعة من الدروس والخلاصات المركزية:
1 هذه العملية جاءت كرد فعل ضد سبعة عقود من الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني وبتواطؤ غربي (بريطانيا التي أنشأت إسرائيل سنة 1917 ثم أمريكا التي ترعاها حاليا بالمال والسلاح والإعلام واستعمال الفيتو في مجلس الأمن) وعجز أممي عن القضاء على آخر نظام احتلال وفصل عنصري استيطاني عمر طويلا دون أن يجد حلا عادلا وشاملا، بسبب الأعطاب البنيوية التي تعرفها الأمم المتحدة على مستوى مجلس الأمن الدولي، وبسبب المعايير المزدوجة والكيل بمكيالين ومنطق القوة الذي يحكم النظام الدولي الحالي.
2 خلَّفت عمليات الإبادة الجماعية والتطهير العرقي التي تقوم بها إسرائيل في غزة والضفة الغربية، آلاف الضحايا معظمهم مدنيين أغلبهم من النساء والأطفال جراء الانتقام الوحشي لقوات الاحتلال الإسرائيلي، إذ ارتفع عدد ضحايا العدوان الإسرائيلي إلى 65 ألفا و419 شهيدا، و167 ألفا و160 مصابا، وتبقى هذه الحصيلة مؤقتة نظرا لوجود آلاف الضحايا الآخرين تحت الأنقاض دون أن تتمكن طواقم الإسعاف والدفاع المدني من الوصول إليهم، نظرا لنقص المعدات واستهداف قوات الاحتلال لأي عمليات إغاثة في غزة في ظل وضع إنساني كارثي بلغ حد المجاعة بسبب حرب التجويع التي تفتقت عنها السياسة الوحشية والبربرية الإسرائيلية.
3 كان هدف هذا الانتقام والإبادة الجماعية هو دفع الفلسطينيين إلى مغادرة غزة وفلسطين وضم الضفة الغربية وتحقيق الحلم الصهيوني بإنشاء إسرائيل الكبرى التي تمتد من الفرات إلى النيل (أرض الميعاد)، كما أن هذه الإبادة الجماعية شملت كل مقومات الحياة من طرقات ومدارس ومستشفيات ومساجد وكنائس وبنيات تحتية صحية وتعليمية وتلويث مياه صالحة للشرب وانقطاع الكهرباء وكارثة إنسانية ودمار، واستهداف بنايات تابعة للأمم المتحدة تقدم الدعم للشعب الفلسطيني وموظفيها الذين قتل منهم ما يقرب من 300 من عمال الإغاثة أكثر من ثلثيهم من موظفي الأمم المتحدة وكوادر طبية، وامتد القتل الوحشي إلى الصحفيين الذين ينقلون الحقيقة إلى العالم والذين بلغ عدد الذين استشهدوا منهم إلى أكثر من 220صحافي كل هذا جرى ويجري أمام مسمع ومرأى من العالم وعلى الهواء مباشرة.
4 رغم هذه الوحشية في القتل والإبادة، فشل الاحتلال الإسرائيلي حتى اللحظة في تحقيق أهدافه المعلنة، من إطلاق سراح الأسرى لدى حماس (تعتبرهم إسرائيل رهائن)، والقضاء على المقاومة الفلسطينية أو إضعافها، واحتلال غزة عسكريا، كل هذا لم يتحقق وعوضه الاحتلال الإسرائيلي بالانتقام وقتل المدنيين واستهداف البيئة الحاضنة للمقاومة بالقتل والتشريد والتجويع حتى الموت، ولم تسلم حتى الضفة الغربية التي تعد “تحت حكم ” السلطة الفلسطينية، وأسقطت عملية طوفان الأقصى كل السرديات والأساطير التي روج لها الإعلام الإسرائيلي منذ عقود من أن إسرائيل قوة لا تقهر، وأنها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط ( ديمقراطية تفرز حكومة فاشية ونازية من اختيار شعب الاستيطان والمستوطنين) وأنها أقوى جيش في المنطقة، وأقوى جهاز استخباراتي في العالم، كل هذا سقط يوم 7 أكتوبر 2023، فلأول مرة تتعرض إسرائيل لضربة مباغتة من داخل فلسطين المحتلة ومن المقاومة الفلسطينية زعزعت ثقتها وقناعتها في مشروعية وجودها كدولة احتلال وأدخلت المشروع الصهيوني في أزمة وجودية، وأبرز تجلياته هجرة الآلاف من الإسرائيليين ومغادرة إسرائيل، فيما سمي إعلاميا ب”الهجرة المعاكسة” بالإضافة إلى تصاعد العزلة الدولية العالمية لإسرائيل بسبب جرائمها الوحشية، ومطاردة الإسرائيليين في العالم والملتقيات وصعود موجة العداء ضد إسرائيل واليهود، مما دفعت كثيرا من يهود العالم إلى التبرؤ من إسرائيل وحكومتها، وما حدث في الأمم المتحدة من مغادرة الوفود ومقاطعة كلمة النتن ياهو قبل إلقائها في اجتماع الجمعية العامة الأخيرة للأمم المتحدة بمناسبة الذكرى 80 لإنشائه، إلا دليل على ما وصلت إليه إسرائيل، و يذكرنا هذا بما حدث لنظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا الذي أسقطته المقاطعة العالمية والتنديد الدولي.
5 كشفت هذه الأحداث حجم التورط الدولي لبعض الدول والشركات والجامعات في جرائم الإبادة التي تقوم بها إسرائيل في غزة والضفة الغربية، كالدول التي تزود إسرائيل بأسلحة وقطع غيار وإرسال السفن المتوجهة إلى إسرائيل محملة بالأسلحة والعتاد حسب ما راج في الإعلام (فرنسا، بريطانيا ….) وكذلك تورط شركات ضخمة كميكروسوفت باستعمال إسرائيل قواعد بيانات واستغلال الحوسبة السحابية لهذه الشركات وأدوات الذكاء الاصطناعي التي تستعملها إسرائيل في استهداف المدنيين العزل في غزة، كما صرحت بذلك مبرمجة مايكروسوفت المغربية ابتهال أبو سعد.
6 الصمود الأسطوري للمقاومة الفلسطينية والشعب الفلسطيني أمام آلة الحرب الجهنمية والمدعومة بترسانة عسكرية متطورة أمريكية وغربية ومحلية الصنع، هذا الصمود الذي كذَّب توقعات المحللين العسكريين الإسرائيليين حول قدرات المقاومة وإضعافها، وكشف أسطورة المقاومة الفلسطينية، كما أظهر تطورا نوعيا في التخطيط والتنفيذ لدى المقاومة رغم تواضع الإمكانيات وقساوة الظروف التي يشتغلون فيها في الأنفاق، والتي لا زالت لغزا محيرا يذكر بالأنفاق الفيتنامية أثناء حرب الشعب الفيتنامي ضد التدخل والاحتلال الأمريكي، وكذلك نظافة المقاومة التي تقصف الأهداف العسكرية من جنود وآليات ودبابات ومدرعات، في صور موثقة وبحرفية عالية كانت جزءا من المعركة الإعلامية والنفسية ضد الاحتلال، هذه الصور وإخراجها وتوقيت بثها كانت تفضح الرواية الإسرائيلية المسوقة داخل إسرائيل وإلى الخارج، وحطمت أسطورة الجيش الذي لا يقهر وهشمت صورة هيبة إسرائيل.
7 هذا الصمود الأسطوري أسهم في أنسنة وعولمة القضية الفلسطينية، بانتقالها من قضية تهم الشعب الفلسطيني بالدرجة الأولى والعالم العربي والإسلامي بالانتماء القومي والديني، إلى قضية إنسانية انخرطت في التضامن معها دول وشعوب من خلال التظاهرات الشعبية والطلابية العالمية شارك فيها حتى يهود ومؤسسات يهودية يعارضون إسرائيل، وامتدت هذه المسيرات الشعبية إلى معاقل الدول الغربية المعروفة بمساندتها لإسرائيل في أوروبا، وإلى الجامعات الأمريكية العريقة للمطالبة بوقف الإبادة الجماعية في حق الفلسطينيين وقطع المساعدات عن إسرائيل، وامتدت هذه التظاهرات إلى البحار حيث سفن التضامن وأسطول الصمود، من أجل التضامن مع القضية الفلسطينية وشعبها المظلوم والمطالبة بوقف النار، وفجرت نقاشا حقوقيا وقانونيا دوليا حول مدى جدية احترام القانون الدولي الإنساني والاتفاقيات الدولية حول حقوق الإنسان وحقوق الطفل والمرأة وحماية الصحفيين ….الخ، و عرَت حالة منظمة الأمم المتحدة وعجزها، كما رفعت دولة جنوب إفريقيا وهي دولة غير عربية و إسلامية، دعوى قضائية ضد إسرائيل لدى محكمة العدل الدولية في إطار “اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها” الصادرة بتاريخ 9 ديسمبر 1948 عن الأمم المتحدة ووقعتها كل من “إسرائيل” وجنوب إفريقيا. وقد التحقت مجموعة من الدول تباعا بهذه الدعوى، مما فتح جبهة قضائية وملاحقة قانونية في وجه الاحتلال الإسرائيلي ومن يدعمه، يضاف إلى ذلك إصدار مذكرات اعتقال في حق رئيس الحكومة الإسرائيلية ووزير دفاعه من طرف محكمة الجنايات الدولية، وهذه المحاكمة و المعركة القضائية تعد سابقة في وجه الاحتلال الإسرائيلي الذي تعوَّد على سياسة النسيان أو التناسي و اللاعقاب والحماية الأمريكية، وأسقاط الدعاية الإسرائيلية في استعمال “الهولوكست” و”معاداة السامية” كأوراق للضغط والابتزاز وتبرير جرائمها، وبالتالي القضية الفلسطينية التي كان يراد دفنها من خلال “اتفاقيات أبراهام” و”صفقة القرن” و”موجة التطبيع”، وشطبها من الأجندة الدولية، انبعثت من جديد وتصدرت واجهة الأحداث الدولية وغطَّت على حرب أوكرانيا والحرب الأهلية في السودان. كما التحقت مجموعة من الدول بلائحة المطالبين بإقامة الدولة الفلسطينية على المستوى العالمي، ووصل عدد المعترفين بالدولة الفلسطينية إلى 145 دولة وهو مؤشر على بداية تفكك الموقف الغربي والأوروبي المؤيد والداعم لإسرائيل، وأصبحت هذه الأخيرة في مواجهة العالم حكومات وشعوب وليس الفلسطينيين وحدهم.
8 هذه الإبادة الوحشية كشفت من جديد السقوط الأخلاقي للغرب وشعاراته حول حقوق الإنسان ومنظومته القيمية الحضارية والتنديد بازدواجية المعايير والكيل بمكيالين، وتجلى ذلك فيما يجري مع روسيا في أوكرانيا وبين ما يجري مع جرائم دولة الاحتلال في فلسطين، وانكشفت الطبيعة المزودجة للسلوك الغربي الرسمي المساند لإسرائيل، حيث الوجه الإنساني الديمقراطي الحقوقي داخل البلدان الغربيةـ ومع حلفائها، والسلوك العنصري الاستعماري خارج الحدود ومع الشعوب الأخرى الغير المنتمية للمنظومة الغربية حضاريا وثقافيا. واتضح أن شعارات حقوق الإنسان تُستعمل لتحقيق مصالح الغرب من أجل الضغط وورقة لابتزاز الأنظمة والشعوب التي ترفض الغضوع لسياساتها وأجندتها أو لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية وعسكرية وأمنية.
9 كشفت هذه الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، ضعف منظمة الأمم المتحدة وعجزها عن إيقاف المجازر التي ترتكبها إسرائيل، وتحقيق السلم والأمن الدوليين سواء في غزة أو أوكرانيا، بسبب نظام الفيتو المعمول به في مجلس الأمن، وعجزت حتى عن حماية موظفيها الذين قتلوا بنيران إسرائيلية، وقد عبر عن هذا الضعف والشلل، كلمات وخطابات رؤساء الدول أثناء الدورة 80 للأمم المتحدة في شتنبر 2025، وعلى رأسها خطاب الأمين العام للمنظمة أنطونيو كطريس ومعظم الخطابات في هذه الدورة تحدثت عن هذا الوضع الذي يتطلب إصلاحا هيكليا وعاجلا للمنظمة، حتى لا تتكرر تجربة “عصبة الأمم” في عشرينات من القرن الماضي الذي أدى فشلها إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية.
10 ضعف الكيانات العربية والإسلامية، كجامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، مما جعلها على هامش الأحداث، باستثناء بعض البيانات اليتيمة التي تخرج بين الفينة والأخرى رفعا للحرج، ضعف النظام العربي الرسمي وتخاذله، يقابله تحرك الشعوب والمسيرات التي تنزل إلى الشارع للتنديد بالمجازر الإسرائيلية في حق المدنيين (في الدول التي سمحت للتظاهرات كالمغرب والأردن واليمن وتونس ..) وإيقاف التطبيع وإسقاطه، وشكلت عمقا شعبيا وجماهيريا وإسنادا للمقاومة، بالإضافة إلى الإسناد الشعبي والعسكري اليمني فيما سمي بوحدة الساحات.
11 فضحت هذه الإبادة الترابط العضوي بين المشروع الصهيوني والسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط إلى حد التطابق، وأن إسرائيل قاعدة أمريكية كاملة الأوصاف، عسكرية وأمنية وسياسية واستخباراتية، ودولة وظيفية، تحظى بالدعم الأمريكي اللامحدود عسكريا وديبلوماسيا من خلال استعمال حق الفيتو في مجلس الأمن لإسقاط كل القرارات التي تدين إسرائيل، أو تطالب بوقف إطلاق النار في غزة (فيتو أمريكي ست مرات ضد وقف إطلاق النار في غزة) ورغم تغير الإدارة الأمريكية من ديمقراطيين إلى جمهوريين، وحتى دور “الوساطة” التي تقوم به أمريكا اتضح أنه موقف متحيز بالكامل لإسرائيل منذ بادية العدوان، وبلغ ذروته في القصف الإسرائيلي للوسيط القطري واستهداف الوفد الفلسطيني المفاوض، ومن قبله العدوان المزدوج الأمريكي الإسرائيلي على إيران.
خلاصة:
1 إن حل القضية الفلسطينية يمر عبر إعادتها إلى أروقة الأمم المتحدة، والاختصاص الحصري للمنظمة، ومنح فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، وإعادة النظر في المقاربة التي تدار بها “عملية السلام” في الشرق الأوسط، والتي تتجلى في استفراد أمريكا وإسرائيل بالطرف الفلسطيني المستضعف وحشره في الزاوية والضغط عليه للقبول بحلول استسلامية.
2 ضرورة الإصلاح العاجل والشامل للأمم المتحدة من حيث توسيع التمثيلية الدولية داخل مجلس الأمن وإصلاح أو عقلنة استعمال حق الفيتو أو استبداله وتعويضه بالتصويت بالأغلبية حتى يعكس حقيقة “المجتمع الدولي”.
3 إعادة الروح والفعالية والنجاعة إلى الوحدة والتضامن بين الدول العربية والإسلامية، والخروج من حالة الغثائية وتفعيل الكيانات الجهوية والإقليمية والدولية (الاتحاد المغاربي، مجلس التعاون الخليجي، جامعة الدول العربية ،منظمة التعاون الإسلامية) لمواجهة المشروع الصهيوني وآلياته وأدواته وتحالفاته، هذا المشروع الذي لا يستهدف فلسطين وحدها، إنما هو مشروع مفتوح وممتد في الزمان والمكان ويستهدف المنطقة برمتها بدعم غربي أمريكي رسمي، ويضع مستقبل الأمن القومي والاستراتيجي للمنطقة في مهب الريح.
*باحث في علم السياسة والقانون الدستوري
