نبيل شيخي
يشهد الفضاء السياسي المغربي تحولاً بنيوياً عميقاً، يتجاوز مجرد كونه يعيش على وقع ظاهرة سياسية عابرة ليطرح إشكالية مركزية في مسار تطور الدولة.
إن حالة “نزع الوساطة السياسية” (Political Disintermediation)، المتمثلة في تخطي المواطنين للمؤسسات التمثيلية واللجوء المباشر للمؤسسة الملكية، ليست مجرد تعبير عن أزمة ثقة، بل هي العَرَض الأوضح لتجريف ممنهج للمشهد السياسي والحزبي وللتراجع عن مكتسبات سياسية وديمقراطية كان يُعتقد أنها أصبحت راسخة.
هذا الوضع، ينقل المطالب الاجتماعية مباشرة إلى المستوى الأعلى في هرم الدولة، ويمثل مفارقة كبرى: ففي حين يبدو ظاهرياً أنه يقوي الرابط المباشر بين الشعب والملك، فإنه في الواقع يفكك الآليات والمؤسسات الدستورية التي تشكل أساس متانة النظام السياسي وضمانة استدامته، والآليات الكفيلة بالقيام بدور الوساطة المؤسساتية، وهو يهدد بذلك بتقويض الفلسفة التي قام عليها دستور 2011، ويُحَمِّل المؤسسة الملكية عبئاً كبيرا قد يجعلها في مواجهة مباشرة مع المجتمع تتجاوز مكانتها الرمزية ودورها التحكيمي.
ولفهم أبعاد هذه الظاهرة، لا بد من تفكيك “أزمة التمثيلية” التي تضرب بجذورها في صميم وظيفة الهيئات الوسيطة. وعلى سبيل المثال، ففي العلوم السياسية، تُعتبر عملية “تجميع المصالح” (Interest Aggregation) وظيفة جوهرية للأحزاب، تعمل من خلالها كقناة لتصريف طاقة المجتمع بشكل بنّاء. فالمجتمع بطبيعته يزخر بمصالح فئوية متنوعة ومتضاربة؛ للفلاحين مطالبهم، وللصناع تطلعاتهم، وللطبقة الوسطى هواجسها وللشباب آمالهم، وبدون أحزاب قوية ومستقلة وذات مصداقية تعمل كمصفاة وقناة جامعة (Funnel)، تتحول هذه المطالب المتناثرة إلى ضجيج وفوضى تهدد الاستقرار الاجتماعي. الدور السليم للحزب هو استقبال هذه المطالب، والموازنة بينها، وصهرها في رؤية متكاملة وبرنامج سياسي واضح يُعرض على الناخبين. إنه بذلك يحوّل الفوضى الاجتماعية إلى خيارات سياسية منظمة عبر الهيئات والمؤسسات المنتخبة. وعندما تفشل هذه المؤسسات في أداء هذا الدور، أو يتم إضعافها وتهميشها بشكل متعمد، فإنها تترك فراغاً هائلاً، لا تلبث أن تملأه قوى غير منظمة كما في الحالة المغربية، يمتصه المركز الرمزي الأعلى للسلطة ويجعل المجتمع يتجه مباشرة ودون مصفاة نحوه.
إن ما نعيشه اليوم هو النتيجة المنطقية لمسار طويل من التراجعات التي تلت موجة الأمل الكبيرة التي أطلقها دستور 2011. لقد شكل هذا الدستور، الذي جاء استجابة لمختلف التراكمات النضالية عبر عقود وتفاعلا مع مطالب حراك 20 فبراير وللتطور الطبيعي للمجتمع، عقداً سياسياً جديداً. وقامت فلسفته على إعادة توزيع واضحة للسلط، من خلال توسيع صلاحيات الحكومة ورئيسها بشكل غير مسبوق لجعلها جهازاً تنفيذياً حقيقياً، والانتقال من مفهوم “الوزير الأول” إلى “رئيس الحكومة”، بما يقتضيه ذلك من رئاسة فعلية وحقيقية للجهاز الحكومي بكافة قطاعاته، وبمسؤولية كاملة أمام البرلمان. لكن سرعان ما بدأت الممارسات السياسية تسير في الاتجاه المعاكس، عبر “التفاف” ذكي على هذه الروح الإصلاحية وتفريغها من محتواها بشكل تدريجي. وقد تجلى هذا المسار النكوصي في عدة مستويات:
أولاً، تحجيم دور رئيس الحكومة المنتخب: فبدل تمكينه من ممارسة صلاحياته كرئيس فعلي للسلطة التنفيذية، شهدنا عراقيل ممنهجة في تشكيل الحكومات، أو ما اصطُلح على تسميته بـ”البلوكاج”، والذي كان يهدف إلى فرض تحالفات هجينة تضعف الأغلبية وتجعل رئيس الحكومة مقيداً منذ اليوم الأول. كما أن استمرار هيمنة ما يسمى بـ”الوزارات السيادية” خارج نطاق سلطته المباشرة، خلق ازدواجية في السلطة التنفيذية، حيث تُترك للحكومة مسؤولية تدبير المشاكل اليومية بواجهة سياسية، بينما تبقى القرارات الاستراتيجية الكبرى في يد دوائر غير منتخبة وغير مسؤولة سياسياً أمام البرلمان.
ثانياً، إضعاف المشهد الحزبي والبرلماني: عبر تشجيع حالة من “التفتيت الحزبي” (Fragmentation) حالت دون نشوء أقطاب سياسية قوية وقادرة على إنتاج أغلبية واضحة ومسؤولة. هذا التفتيت المتعمد ينتج برلماناً ضعيفاً ومشتتاً، يسهل التحكم فيه وتجاوزه، ويجعل تشكيل حكومات قوية ومتجانسة أمراً شبه مستحيل، مما يكرس حالة العطالة السياسية ويدفع المواطن إلى اليأس من جدوى صوته الانتخابي ومن جدوى المشاركة السياسية.
ثالثاً، تجاوز المؤسسات المنتخبة: لوحظ بشكل متزايد أن القرارات الاستراتيجية الكبرى والمشاريع المهيكلة للدولة أصبحت تُطلق وتُدبر خارج الإطار الحكومي والبرلماني. هذا الأسلوب، وإن كانت غاياته تنموية، إلا أنه يبعث برسالة واضحة للمجتمع مفادها أن المؤسسات التي ينتخبها هي مؤسسات شكلية وثانوية، وأن الفعل الحقيقي، الذي لايخضع للمحاسبة، يقع في مكان آخر، مما يعمق أزمة الثقة ويدفع المواطنين إلى تخطي هذه المؤسسات والتوجه مباشرة لمن يعتقدون أنه يملك السلطة الفعلية.
رابعاً، التلاعب بسلامة العملية الانتخابية: لم يقتصر هذا التراجع على الممارسة السياسية، بل امتد ليطال جوهر الآلية الديمقراطية نفسها: الانتخابات. فباستثناء انتخابات 2012 التي جرت في سياق زخم حراك 20 فبراير وتميزت بقدر كبير من النزاهة، شهدت المحطات اللاحقة عودة لممارسات تهدف إلى التأثير المباشر وغير المباشر في إرادة الناخبين. ففي انتخابات 2016، شاهدنا محاولات غريبة لتوجيه الرأي العام، كان أبرزها “مسيرة ولد زروال” الشهيرة بالدار البيضاء، والتي شكلت مشهداً سريالياً وتدخلاً فجاً من جهات غير معلومة لتشويه سمعة فاعل سياسي رئيسي. وبلغ هذا المسار ذروته في انتخابات 2021 عبر هندسة قانونية غير مسبوقة، تمثلت في اعتماد “قاسم انتخابي هجين” لا مثيل له في التجارب العالمية، يقوم على احتساب المقاعد بناءً على عدد المسجلين في اللوائح الانتخابية وليس على عدد الأصوات الصحيحة. لقد كان الهدف من هذه الآلية واضحاً: منع أي حزب من الحصول على أغلبية مريحة، وتكريس التفتيت، ورسم الخارطة السياسية مسبقاً بغض النظر عن توجهات التصويت.
إن مثل هذه الممارسات لا تمثل مجرد اختلالات تقنية، بل هي ضربة في صميم العقد الديمقراطي، لأنها تبعث برسالة للمواطن بأن صوته لم يعد له الأثر الحاسم، مما يجعله ينصرف عن العملية برمتها.
وتكمن الخطورة القصوى لهذا المسار في كونه يغير طبيعة ووظيفة المؤسسة الملكية نفسها. فالدستور يضعها في موقع الحكم الأسمى والضامن للتوازنات والحقوق والحريات وللاختيار الديمقراطي، مما يمنحها “رأسمالاً رمزياً” هائلاً كقوة محايدة وموحدة فوق كل التجاذبات. أما تحويلها إلى المتلقي المباشر للمطالب اليومية، فيجعلها فاعلاً سياسياً في الواجهة، معرضة للاحتكاك المباشر ولتحمل مسؤولية إخفاقات السياسات العمومية. هذا الوضع لا يفرغ فقط مبدأ “ربط المسؤولية بالمحاسبة” من محتواه، بل يستهلك الرصيد الرمزي للملكية الذي هو صمام أمان الدولة المغربية بأكملها.
إن هذه اللحظة، بكل ما تحمله من تحديات، يجب ألا تكون محطة للتردد او للقراءة الخاطئة، بل فرصة تاريخية يجب استثمارها لإعادة المغرب إلى السكة السليمة التي رسمها الاختيار الديمقراطي كأحد ثوابت الأمة. المخرج لا يكمن إلا في العودة الصريحة والقوية، روحاً ونصاً، إلى عقد 2011 وربما التفكير الجدي في تطويره. وهذا يتطلب شجاعة سياسية قادرة على بث نفس سياسي جديد يتجاوز حالة الانسداد الحالية ويعيد بناء الثقة المفقودة. وهو ما من شأنه التأسيس لمستقبل تُفعَّل فيه كامل الصلاحيات الدستورية للحكومات وللجماعات الترابية المنبثقة عن إرادة شعبية حقيقية، وتُمكَّن من تنفيذ برامجها وتُحاسَب عليها، وتُقوَّى فيه الأحزاب الجادة، وتُعطَى للمعارضة البرلمانية دورها الكامل في الرقابة وتقديم البدائل، مع التفعيل الحقيقي لكافة المؤسسات الدستورية للحكامة السياسية والحقوقية والاقتصادية والاجتماعية لتقوم بادوارها وبكل استقلالية وفعالية. إن القطع مع ممارسات الماضي هو السبيل الوحيد لإعادة بناء الثقة. فتقوية هيئات الوساطة والمؤسسات المنتخبة يمثل أسمى درجات حماية الثوابت الجامعة للامة المغربية ومن ضمنها المؤسسة الملكية، وهو الطريق الوحيد لبناء نظام سياسي متوازن وصلب، قادر على استيعاب طاقات مجتمعه وضمان استقراره وازدهاره.
