عفا الله عما سلف

الموقع

كانت جملة “عفا الله عما سلف” التي قالها رئيس الحكومة ذات حوار مع قناة الجزيرة- وهي على كل حال مرهونة بالسياق الذي قيلت فيه- كافية لكي تتخذ منصة للقصف العشوائي من طرف كل من كان لا يجرؤ على فتح فيه إلا عند طبيب الاسنان، لكي يتهم هذه الحكومة بالارتداد عن محاربة الفساد والتصالح معه، و أن كرسي المسؤولية الذي ليس وثيرا بالضرورة قد أنسى أصحاب شعار ” صوتك فرصتك ضد الفساد والاستبداد” هويتهم، وتشابه عليهم البقر حتى أضحوا حلفاء لخصومهم أعداء لأنفسهم من حيث يعلمون أو لا يعلمون .

لقد جسدت تلك الجملة منتهى علم البعض، ومبلغ درايتهم وأضحت صالحة لكل زمان ومكان، صالحة في الاقتصاد والسياسة والرياضة وحتى الفن، كافية وافية لكل غرض دنيء أو شريف مادامت تعفي أصحابها من كل جهد، بل إنها في عرف إن لم أقل في شرع بعضهم من باب “التيمم” الذي يجيز إتيان كل القربات من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ولا يكلفهم مؤنة، إنها تكشف عورة نخب مسكونة بالانتهازية والابتذال،  مستعدة للقفز على كل الوقائع العنيدة التي لا تحابي أحدا،  ولا تجامل متملقا او متنطعا.

يؤتى بها في كل حين للي أعناق الحقائق الجليات، وحجب الوقائع  التي تفقأ العيون، فتعمى البصائر  قبل الأبصار عن رؤية كل الجهد غير المسبوق في إرساء الحكامة من قوانين ومؤسسات وإجراءات وتدابير، ويتم القفز عن كل الملفات المفتوحة هنا وهناك لمحاسبة مسؤولين في قطاعات متعددة، ويتم غمط السعي الحثيث لدعم شفافية القطاعات والصفقات وغيرها، مادام الجواب جاهزا على الدوام صالحا للاستعمال في كل الظروف وتحت كل الشروط.

سأتوقف هنا عند محطة واحدة، تكشف أن الفساد لا يحاربه من هب ودب، وأن من كان بيته من زجاج لا يقصف غيره بالحجر،  وأن المعارضة ليست نزهة مريحة يكفي فيها حشد الألسنة الحداد الأشحة على الخير لكي نحوز شرفها، ويتعلق الأمر بالخطوة التي أقدم عليها وزير العدل والحريات بإحالة واحد وعشرين ملفا من الملفات التي أعدها المجلس الأعلى للحسابات على القضاء لكي يقول فيها كلمته،  فعوض أن يصفق الجميع لهذه الخطوة غير المسبوقة في تاريخ المغرب والتي تجسد استجابة لمطالب الشارع في ترتيب الجزاءات عن الأفعال المشمولة بالشطط والتجاوز والفساد في تدبير الشأن العام، وتعتبر ترجمة عملية لمفردات اللحظة السياسية والاختيارات الدستورية في إقران المسؤولية بالحساب، خصوصا وقد مر علينا حين من الدهر كنا نتساءل فيه عن جدوى وجود مؤسسة مكلفة بالحكامة من حجم المجلس الأعلى للحسابات، والفائدة من كل التقارير التي تبذل فيه أموال وترصد له كفاءات دون أن تجد لها طريقا لترتيب الجزاءات على من ثبتت عليه التجاوزات، حتى أننا ما زلنا نتذكر أنه في زمن غير بعيد كانت صحافتنا ونخبنا تتحدث عن التقارير المرمية في أروقة بناية المجلس الأعلى، بل إن الوزير الحالي للعدل والذي كان آنذاك رئيسا للجنة العدل والتشريع بمجلس النواب كان عاجزا- بحكم القانون آنذاك- عن استدعاء رئيس المجلس إلى المؤسسة التشريعية لسؤاله عن حقيقة مآل تلك التقارير.وعوض كل ذلك رأينا كيف بدأ البعض المعلوم يشكك في الخطوة و يستدعي مبررات موهومة للطعن فيها.

اليوم وبعد الدستور الجديد الذي وفر إمكانات لم تكن متاحة من قبل، ووجود حكومة شعبية جادة في محاربة الفساد بالفعل وليس بالتمني أو التبني، نرى كيف تتحرك الأيادي الخبيثة المتلبسة بجناية التستر على الفساد للضغط بالوسائل التي لا يعلمها إلا الله والراسخون في علم الفساد والافساد، المندسين هنا وهناك والذين يحركون كراريز السياسة وتجار الوهم،  في مسرحية رديئة يتقمصون فيها دور الكومبارس في محاربة فساد موهوم هم منتجوه وسدنته، نرى كيف انبرى هؤلاء لوقف المسار الذي دفعت في اتجاهه وزارة العدل، ولا غرابة في الأمر كما يقول رئيس الحكومة ” إن الفساد يعرف كيف يدافع عن الفساد” ،فهؤلاء الذين يتحركون من وراء حجاب  هم و كراكيزهم السياسية إنما يدافعون عن مصالحهم، وعن ريع ألفوا الولوغ فيه، ويتسترون عن إخوانهم في الحرفة خصوصا منهم من كانوا معنيين بتقارير مجلس الحسابات من رؤساء جماعات ترابية.
فهل يا ترى بعد هذا الذي عرضناه، من يحارب الفساد؟ ومن يريد أن يفرض علينا “عفوا” بالإكراه وبالتدليس عن الفساد؟ من يملك جدارة الاصطفاف مع الشعب بلا هوادة في التصدي لفيالق الإفساد؟ ومن في “بطنه” ما يمنعه ويحول بينه وبين مقارعة الفساد؟

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.