بها من يكون؟

محمد عصام

لقد فجرت وفاة الراحل سي عبد الله بها المفجعة، شلالا متدفقا من المشاعر ساوت بين كل فئات الشعب المغربي دون تمييز بين المواقع، أو القرب أو البعد من الراحل إنسانيا أو حتى فكريا، وكشفت اللحظة عن مخزون الخير الذي ينطوي عليه هذا الشعب المغربي المتميز في كل شيء، المتميز في حبه ووفائه لرجالات هذا البلد الأفذاذ، والتقدير غير المشروط لا بالمواقع ولا بالمواقف للذين وهبوا أنفسهم وحيواتهم لهذا الوطن، لقد كانت لحظة الوفاة تلك وما تلاها من مراسيم الجنازة استفتاء شعبيا كشف عن عمق ” تمغربيت” التي تسكن روح هذا الشعب فأذابت كل المتاريس الوهمية التي نصبناها على حين غفلة نحن جميعا فيما بيننا، وأماطت اللثام على أن مغربا ممكنا ما يزال مضمرا إلى حين وأنه بخير وعلى الدوام.

إنها لحظة إنسانية بامتياز امتزجت فيها دموع الحسرة بمشاعر التقدير، وأحاسيس الوجد بعبارات الإشادة، ولكنها على كل حال تبقى لحظة محكومة بسنة الله في تكوير الليل على النهار، وأن مصيرها إلى انقضاء كغيرها من المشاعر التي تفيض بها النفس الانسانية في لحظات الضعف كما في لحظات الفرح الجامح، مما يجعلنا نصر على ضرورة المرور الى المحطة الثانية في تدبير لحظة الفراق الحزينة هذه وبالسرعة القصوى، إنها محطة استخلاص العبر وسبر أغوار الحكمة في حياة الراحل، واستحضار الاضافات التي قدمها لوطنه من باب التكريم أولا لشخصية غير عادية ولمسار حياة استثنائي حافل بالعطاء بكرم غير متناهي للوطن وأبنائه، وثانيا كشفا على معالم رؤية للحياة وللمصير وفي ثناياها لوطن يسع الجميع، كانت في خلفية انتاج هذا المسار بكل البذخ الطافح في المعنى والمبنى الذي جسده الراحل.
عبد الله بها بطل معركة تحرير العقل الاسلامي من الثنائيات المشؤومة:

لقد كان بها مهندسا للتحول الكبير الذي طرأ على آليات انتاج السلوك الحركي لدى أبناء الصحوة الاسلامية بالمغرب، فلحظة تأسيس “جمعية الجماعة الاسلامية” ليست لحظة عابرة في تاريخ الحركة الاسلامية وتاريخ الفكر الاسلامي المغربي، ولا يمكن اختزالها في مجرد حدث تنظيمي يقطع مع تجربة سابقة ويؤسس على أنقاضها لتجربة تنظيمية وليدة، إن تلك القطيعة التنظيمية في بداية الثمانينيات كانت بمثابة ميلاد فكر إسلامي جديد، ورؤية حركية تنظيمية لإنتاج رشد الحركة الاسلامية في صيغتها التجديدية، وكان لسي عبد الله مع رفاقه الموقعين على بيان تلك القطيعة وهم رفيق دربه الاستاذ عبد الإله بن كيران، ورفيق دراسته  الدكتور سعد الدين العثماني، ومنظر الحركة الاستاذ محمد يتيم وآخرين، كان لهم جميعا شرف الاشراف على بزوغ هذا التحول، وشرف التمكين له فكرا وممارسة، قناعات وسلوكا، وتكبدوا من أجل التمكين له ما لا يمكن للجيل الحالي أن يدركه ولا أن يتصوره، فليس من السهل في سياق تلك السنوات الموسومة بالشدة والمحكومة بمنطق المنازعة، أن يتخلص المرء من ضغط ذلك الواقع ولا أن يتحرر من إكراهاته، لقد كانت تلك الزمرة بمثابة رسل لفكرة كانت بموازين لحظتهم وسياق ظروفهم،  ضربا من الجنون أو الحلم الذي لا يصدق، فكان طبيعيا ان تنتصب في وجوههم مقاومات شرسة من داخل بيتهم التنظيمي قبل خارجه، واحتاج الامر الى سنوات من البناء والاقناع وتكبد الجهد والاجتهاد تنظيرا وممارسة، الى أن استوى البناء على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الجاحدين.

أ/ ثنائية مع أو ضد النظام
لقد سبق لنا أن تحدثنا عن السياق الذي وقع فيه ذلك التحول والذي  كان موسوما بالشدة، وكان يحكمه منطق التنازع والمخاصمة، وكان اليسار بحكم استحواذه على الفعل السياسي والاعلامي والفكري، متحكما في انتاج القيم التي سادت المشهد السياسي المغربي حينذاك،  فلم يكن متاحا أن يتم التفكير او انتاج السلوك السياسي خارج تلك الأقانيم التي وضعها اليسار ونصب كهنة على معبدها، وشرع في توزيع صكوك الغفران على مرتادي السياسية  ومرتفقيها، فإما ان تكون مع النظام ( و في صيغته المغربية : المخزن) أو أنك في صف الشعب، وبلغة اليسار السائدة آنذاك، إما أن تكون تقدميا أو انك بالضرورة رجعي ولا منزلة بين تلك المنزلتين، ولا هوية خارج تلك الثنائية الجحيم.
ولم يسلم العقل الاسلامي من هذه الحدية ولم ينج سلوكه الحركي من هذه القطبية، رغم كونه نظريا كان يطرح نفسه بديلا لليسار، وناسخا سلوكيا للتياسر المكتسح  لكل  قنوات التعبير السياسي من تنظيمات وإعلام وفن وغيره،  حيث لم يلبث أن صار الاسلاميون ينتجون ثنائياتهم البغيضة ولكن بنفس التقاطب وحدية التمايز، فانتقلنا من التصنيف بين رجعي وتقدمي الى تصنيف جديد بين الاستكانة للطاغوت او الاصطفاف في خندق الدفاع عن الخلافة الراشدة او القومة أو ما شابههما، ومن بين الالوان الاسلامية من ذهب بعيدا ورتب ثنائية عقدية بين الاسلام وضده.
وكان الراحل رحمة الله عليه منتصبا كالطود الشامخ لنسف أساس هذه الثنائية وتخليص العقل الحركي من عقالها، مذكرا أن منطق الاسلام الذي نذرت الحركة الاسلامية نفسها للتمكين له لا ينسجم بنيويا مع منطق التقاطب، وأن الخير الذي عبرت عنه رسالة الاسلام بالمعروف في عموميته لا يمكن أن يكون حكرا على خندق دون آخر، وان الخير مبثوث في هذه الامة بلا تمييز وأن دورنا أن نكون رسل هذا الخير، والساعين فيه، اما الانكفاء خلف وهم  الصراع  او المنازعة ، فهو هروب من فروض الوقت واستكانة الى الجاهز من الاحكام بلا تأثير على الواقع أو مكابدة لاكراهاته.

ب/ ثنائية الإسلامية وغير الاسلامية
إن التحول الاساسي الذي رتبت عليه مجموعة  سي  بها خلاصاتها الفكرية، هو تغيير نظرة الاسلاميين لمجتمعهم، فكان طبيعيا في تلك الفترة التي كانت فيها مظاهر التدين تعيش غربة مجتمعية جراء سطوة اليسار الفكرية، وهيمنة الدولة في انتاج خطاب ديني موغل في التقليدانية وتشجيع  ثقافة القبور والاضرحة، ان تكون ردة الفعل من جانب الشباب المتدين عنيفة ضد مجتمعهم، رافضة لكل أشكال التواصل معه بل الاصرار في بناء الفرادة على أساس الانعزال والعيش على هامش المجتمع حرصا على النقاء التربوي وإصرارا على بناء التميز السلوكي مع ما يستبطنه من إدانة للمجتمع وثقافته وعاداته، وزاد الاستيراد الأعمى للمنتوج المشرقي وفقا لريادته في التربية والفكر من حدة غربة الاسلاميين عن أوطانهم ومجتمعاتهم.
فكانت مساهمات سي بها في هذا الجانب مقدرة بل مصيرية في استعادة التوازن في نظرة الشباب لمحيطهم ونسج التصالح بينهم وبين أوطانهم، وليس الامر بالسهولة التي قد يعتقدها البعض حيث إن “المفاصلة” كمفهوم تم استنباته ضمن مشمولات العرض المستورد من المشرق، قد بلغ مستوى من التجذر الوجداني الذي أنتج أنماطا من عيش اللحظة الدينية موغلة في ” الاغتراب المشرقي” الى حد الافطار والامساك  مثلا على وقع عقارب المشرق، فلم تعد المفاصلة خيارا فرديا وجدانيا بل إنها قفزت الى درجة بناء عقيدة الولاء والبراء في الله، ونتج عن كل ذلك عزل الحركة الاسلامية عن محيطها وسجنها في تعبيرات سلوكية فجة وكاريكاتورية، ساهم الخصوم من موقع المنافسة السياسية على تركيزها في المخيال العام للمغاربة تمهيدا لرسم صورة نمطية للحركة الاسلامية موغلة  في الادانة وبخلفية اقصائية استئصالية، تمتح من مفردات سياق تلك المرحلة المتسم عموما بمنطق الصراع والارهاب الفكري وحتى العنف الجسدي.
فكان رحمه الله علما في إنتاج مصالحة حركة التدين مع مجتمعها، منبها الى أن هذا الاخير أصيل في تدينه، وإن علا بعض الدخن سلوك أبنائه، وأن التجربة التاريخية للمغرب في مسار ارتباطه بهذا الدين، متميزة تستلزم قراءة من داخل متنها وبأدوات أصيلة تنتجها بيئتها بعيدا عن نوازع الاغتراب الطوعي في تجارب الآخرين، هذه الرؤية هي التي ستؤسس بعد إبرام الصلح مع الواقع  والمجتمع لعملية إنتاج نهج المشاركة السياسية والتأصيل لها.

ج/ السياسة بين منطقي المشاركة والمقاطعة
تأسيسا على الثنائيات السابقة والتي شكلت فخا معرفيا للعقل الاسلامي الحركي ولغما في مسار سلوكه السياسي، ومن رحمها ولّد الراحل انعطافة تاريخية  في تعاطي أبناء الحركة الاسلامية للسياسة، فلم يكن مقبولا في منطق اللحظة ولا بمنطق الأدبيات التي كان يتغذى بها الجسم الحركي آنذاك، أن نتحدث عن مشاركة سياسة لأبناء الحركة الإسلامية ولا من باب الفرضيات الممكنة أو الخيارات المحتملة، فمنطق الادانة  الشاملة للمجتمع والدولة معا سواء كان وراءه اختيارات عقدية قد تصل الى درجة التكفير، أو مواقف سياسية موغلة في المزايدة على اليسار الذي كان بدوره يعيش فترة سطوة الاختيارات الجذرية والعدمية، لم يكن يتيح إدراج هذا الخيار ضمن الممكنات السياسية، وكان للراحل رحمة الله عليه ولزمرته الاولى فضيلة التأصيل لهذا المنهج استقراء لنصوص الشرع بمنطق مقاصدي، واستحضارا لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح، ولم يكن الجهد النظري نزهة سهلة في رياضات النصوص والسير بل كان معاناة يومية للإقناع  والبناء، قطع من أجلها الراحل رفقة خليل دربه وبقية زمرتهما دروب الوطن شمالا وجنوبا، شرقا وغربا، ليتوج هذا المسار بإقرار المشاركة مبدأ مجمعا عليه،  ترجم إلى خطوات عملية كان في بدايتها اللجوء إلى تأسيس حزب سياسي من خلال تجربة حزب التجديد الوطني، التي لم يكتب لها التوفيق حيث لم تكن السلطة آنذاك  مستجمعة  لكل عناصر بناء الثقة بينها وبين الوافدين الجدد من حقل العمل الاسلامي، وفي هذه اللحظة بالضبط كان بالإمكان لسفينة المشاركة أن تتوقف وأن يتعطل سيرها إن لم يتم نسفها من داخل بنيتها في الاقناع والتأصيل، بدعوى عدم جدواها مقابل صدود الادارة عنها، ولكن القناعة قد ترسخت بشكل لا رجعة فيه بجدوى خيار المشاركة والبحث عن الحلول الممكنة بعيدا عن منطق المنازعة والتصادم الذي كان بالإمكان أن يستنزف جهدا ووقتا يمكن ادخارهما  في بناء بدائل أخرى أكثر عملية وأوفر نجاعة، لنا أن نتصور قطار المشاركة  توقف عند تجربة حزب التجديد الوطني وأن رفض الترخيص له ووجه بمنطق الرفض وبسلوك الاحتجاج، فإنه من الأكيد أن البلد ستخسر جزء من عمرها في تجاذبات غير ضرورية وليست مضمونة العواقب، ستكبد الجميع فاتورة غالية من التحملات والتكاليف.
انتصر حينها منطق العقل وكان الراحل في صلب هذا المنطق، وكانت النتيجة خيرا عميما توج بانتقال أبناء الحركة الاسلامية من هامش المجتمع الى قمرة قيادة سفينة تدبيره، وهو الأمر الذي لم يكن يخطر على بال أكثر المتفائلين حينها.

د/ ثنائية السياسة والدين
لانقصد وجود تقابل أو تنافر بين المجالين فالحركة الاسلامية في عمومها ومنذ نشأتها الاولى حسمت رؤيتها للدين باعتباره كينونة موصوفة بالشمولية وضمن مشمولاتها توجد السياسة كإحدى أولوياتها، ولكن نقصد أن الراحل سي عبد الله بها كان من الموفقين في صياغة سلاسة العلاقة بينهما،  حيث لا يعني حضور أحدهما غياب الآخر،  حيث  كان رحمه الله يصر على ضرورة أن يحضر الدين دوما في السياسة ليس بمعنى انتاج لاهوت جديد، ولكن بمنطق يستحضر منطلقات الاشتغال بالسياسة كامتداد لحركة التدين، وفي صلبها إرادة الخير للمجتمع والسعي فيه، إنه منطق قد يبدو غريبا بنظر السياسة الكسير، ولكنه كان مصدر قوة الراحل في أشد المراحل وأكثرها صعوبة وهوما كان يميزه عن بقية رفاق دربه ويجعله محط  حظوة  لديهم ومناط إشارة ونصح لهم، إنها رؤية تربط الفعل بالمنطلقات وتحسم في الخيارات بالنظر الى المآلات، ولو أني تتبعت محطات حياة الراحل لوجدت فيها آيات كاشفة لحضور هذه الروح، لكن كل العارفين به من مجايليه أو الذين اشتغلوا معه في الحكومة يدركون حجم حضور هذه الرؤية لدى الراحل، ومنها كان يستمد قوته التي أورثته يقينا بلا انفعال، وصبرا بلا استسلام، وحكمة يشهد بها الان الخصوم قبل الخلان، فرحمة الله عليك يا فارس الحكمة ورائد الصمت البليغ.

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.