كلمة الموقع
لماذا كلما اقتربت أصابع الاتهام من جهة معينة لكون شائبة الفساد تحوم حولها، إلا وتطوع البعض لاختلاق معارك هامشية لصرف الاهتمام عن الموضوع الاصل، وبناء ترافع بمقولات أقل ما يقال فيها أنها من باب الحق الذي يراد به الباطل، أو لوضع متاريس لحجب رؤية الأمر في حقيقته وصورته الطبيعية؟ ما الذي يجعل الفساد يملك كل هذه القوة إن لم أقل الوقاحة في الدفاع عن نفسه حتى يبدو معه الصواب أو الحق مترددا لا يكاد يبين؟ ومن أين يستمد خندق الفساد كل هذه القوة التي تجعله الأعلى صوتا والأكثر ضجيجا وصخبا، وإن كان الأفقر حجة والأذم صورة والأبشع خلقة؟
سبب نزول هذه الاسئلة الحارقة ما عرفه المشهد السياسي من نقاشات وصلت حد إيقاف جلسة عامة للأسئلة الشفهية بمجلس النواب أول أمس الثلاثاء، على خلفية طرح نقاش يتعلق بتلبس مسؤولين حزبيين بملفات فساد، وحيث إننا نحترم قرينة البراءة وأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، ولكن الانتماء الى اللحظة السياسية التي تعيشها بلادنا كان يقتضي من كل الفرقاء السياسيين أن تتسع صدورهم، وأن يتحملوا أعباء المرور من لحظة التأسيس لمرحلة الانتقال، المقتضية تفعيل آليات المحاسبة وربط الاداء بالحساب كمشمولات للتعاقد المنجز لمرور المغرب من لحظة ربيعه التي نتمنى لها طول العمر ودوام الحصائد، كان من المفترض من هؤلاء أن ينحازوا الى خندق المحاسبة كيفما كانت النتائج، وأنهم من حيث المبدأ كان عليهم أن يصطفوا الى جانب تكريس الحكامة والانتصار لمبدأ الشفافية، أما الصراخ في وجه أي اقتراب من جحور الفساد والإفساد كيفما كانت مبرراته فإنه في المحصلة لا يعني إلا شيئا واحدا، أن بعضا من النخب السياسية وكثيرا من الأحزاب السياسية في بلدنا تعيش حالة من الانفصام المزمن في الشخصية والسلوك، فالكل بمناسبة أو غيرها يتغنى بالوصال مع مفردات الوقت ولا يستحيي أن يرفع عقيرته مدعيا انتماءه إلى خندق محاربة الفساد، إلا انه سريعا ما ينقلب على أعقابه كلما اقترب الحساب إلى مضاربه، فتصير اللغة غير اللغة، ويتم استدعاء كل المبررات ما ظهر منها وما بطن، من قبيل فرملة وزير العدل في حربه غير المسبوقة على أوكار وجحور الفساد وتفعيله لمسطرة الإحالة على الجهات المعنية لتكييف التهم والتحقق من نسب التلبس بها، في إجراء أقل ما يوصف به أنه عادي ومشروع، بل إنه كان على الدوام في صلب المطالب المرفوعة من المجتمع السياسي والمدني على حد سواء، وذلك برفع يافطة الانتقائية، وأن ما يحرك الوزير وعدالته المعطوبة في زعمهم هو الانتقام من خصومه السياسيين وتصفية حسابات معهم على “ظهر العدالة المفترى عليها”، وهو ادعاء لا يصمد أمام التحدي الذي رفعه الوزير ولمرتين داخل المؤسسة التشريعية، فما هو يا ترى الذي يمنع هؤلاء المشككين من اللجوء الى آلية لجان التحقيق الذي تحداهم بها الوزير؟ وما الذي يمنعهم قبل ذلك من فك ارتباطهم بمن تحوم حوله تلك الشبه إلى ان يتم التحقق من صحة تلبسهم بما اتهموا به؟ وما هو حجم الخسارة إن هم فعلوا ذلك، وبرهنوا لهذا الشعب المغلوب على أمره انهم جادون حقيقة فيما يدعون؟ عازمون فعلا عل اجتثاث هذا الوباء حقيقة لا ادعاء؟
لقد عشنا كمغاربة حينا من الدهر لم يكن ممكنا فيه أن تصل العدالة او اصابع اتهامها الى مجرد جر واحد من إياهم الى مشرحة السؤال وصراط التحقيق، بل إننا ولزمن غير يسير كنا نطرح سؤالا عن جدوى وجود مؤسسة دستورية مكلفة بالحكامة من حجم المجلس الأعلى للحسابات إذا كانت تقاريرها لن تعرف طريقها الى الجهة المعنية لترتيب الجزاءات عن مختلف المخالفات ذات البعد الجرمي، بل وصل الامر الى تناقل وسائل الاعلام فيما يشبه الاجماع أن ملفات المجلس الاعلى للحسابات مهملة في أروقة المجلس بلا حسيب ولا رقيب، ولكن اليوم بعد ما راكمته بلادنا دستوريا وسياسيا من مكاسب تدعم خيار الحكامة وتنتصر لمقاربة ربط المسؤولية مع المحاسبة، لم يعد مقبولا لأي جهة أن تتهرب من السؤال، أو أن تتنكر لمسؤوليتها تجاه التزامات اللحظة السياسية، وإن أول خطوة يستدعيها منطق الانضباط لهذه اللحظة هو البدء بالبيت الداخلي والذات التنظيمية إعمالا لمنهج التحلية والتزكية، وأسبقية الاولى عن الثانية، فلا إمكان لأن يوهمنا البعض انه في خندق محاربة الفساد وهو موغل في الاصطفاف بجنب أعداء الاصلاح، متستر على المفسدين متصالح معهم في الخفاء وفي العلن.
إن أصل الداء وأساس العطب في الذات التنظيمية ذاتها، ففاقد الشيء لا يعطيه، وما تعيشه أغلب الأحزاب اليوم وخصوصا منها التي في المعارضة من أزمات تنظيمية، وعدم قدرتها على تدبير الخلافات داخلها بآليات ديمقراطية ووفق منهج مؤسساتي، يجعلها عاجزة عن تقديم صورة مغرية وجذابة تبوؤها جدارة التصدي لظاهرة الفساد، خصوصا ونحن نعلم والكل يعلم أنها لا تملك قرارها أمام سلطة الفساد الذي يحتل مراكز مؤثرة داخلها، من يوم اصبحت هذه الاحزاب تلهث وراء المقاعد وتفتح ابوابها لسماسرة الانتخابات طمعا في تأمين تمثيلية أشبه بالسراب الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.