الموقع
لقد ترسخ تقليد عند منابر الاعلام أن تخصص غروب كل عام، بانتقاء من يرى القائمون عليها أنهم بصموا مرور السنة المنفرط عقدها على أعتاب ذلك الغروب كشخصية أو حدث للسنة ، فتحشد الذاكرة الاعلامية كل أدوات التذكر المتاحة لديها، والتي لن تكون بالضرورة بمنأى عن توجيه ” العين” التي تبدي أشياء وتخفي كثيرا، وفق حسابات المضمر فيها أكبر بكثير من المعلن، يحكمها منطق القرابات الايديولوجية، وحسابات المواقع، وإكراهات المواقف، وفواتير الاصطفاف.
وحتى نجنب أنفسنا شبهة الراعي حول الحمى الذي يوشك أن يقع فيه، فإننا لن نودع سنتنا هذه باختيار هذا أو ذاك، بل إننا سنعمد الى بناء حساب مكاسب السنة باستعراض خسائرها، لأن حجم الغُنْم لا يعرف إلا بإدراك فداحة الغُرْم، والوعي بالخسارة بداية لتلمس مسارات الربح وطرق الغنيمة، وحيث إن السياسة هي مجال خسائرنا الفادحة، ومرتع انتكاساتنا المتعددة، فوجوبا وبالمنطق الذي رتبناه سابقا على أنفسنا، نطرح سؤالا عن ماذا خسرنا نحن مجتمعين ونحن نودع سنتنا هذه سياسيا؟
إننا بطبيعة الحال لن نتوقف عند كل الهزائم، ولكننا سنبسط الكلام عن خسارة بنيوية تبقى معها كل الخسائر الأخرى مجرد تفاصيل على متن أصلي من رحمه تولد كل الانتكاسات وكل الهزائم، إننا فقدنا هذه السنة وفي لحظتين متفرقتين، وبالمقدار نفسه من الفجيعة والصدمة، قيمة حقيقية ومعنى أصيلا للممارسة السياسية، بفقدان رجلين ومسارين، جَسَّدا رقيا عالي الأوصاف للسلوك السياسي، وشكلا منارة مضيئة وسط ظلام دامس يسكن تفاصيل الحياة السياسية الوطنية، يجعلها أقرب الى العبث الذي ينفر منه العقلاء نفور الناس من الجذام، لقد جسد فقدان الراحلين الزايدي وبها، والذي كان بطعم الفجيعة التي لم تترك لهما فرصة إلقاء التحية الأخيرة شأن كل الكبار الذين يمرون بسرعة ويمعنون في ترك الذكريات وشما على محيا الزمن البئيس، وشأن كل الأشياء الجميلة التي تسرع الخطو بلا تردد نحو الانقضاء حتى لا يعكر رونق هرولتها نحو النهاية قبح أزمنتنا وذمامة خلقة طقسنا، لقد جسد الراحلان وفي سياقين مختلفين تصورا ومسارا، نموذجَ السياسة المتخلقة على حد تعبير الاستاذ حسن طارق، وكانت رسالة موتهما الموغل في الفجيعة، أن إمكان زواج السياسة بالأخلاق ممكن ومتاح، وأنه من الوهم الاعتقاد كما يراد لنا، أن السياسة لا خلق لها، ولا عقيدة تحكمها، ولا مبادئ تؤطرها، وأن كل المسخ الذي يحتل المشهد اليوم ليس أصيلا في بنية السياسة ولا جديرا بموقع الزعامة التي يحتلها، وأن الضجيج الذي تثيره هذه الكائنات وإن علا صخبه، وكثر هرجه ومرجه لا يعدو أن يكون من باب الجعجعة التي لا طحين لها ولا فائدة منها.
إن الراحلين بموتهما المتقارب زمنا الموَحَّد مكانا، إدانة لكل هذا القبح الذي تسلل على حين غفلة الى الممارسة السياسة في هذا الوطن، معلنا وفاة الزمن الجميل الذي لم تكن القيادة فيه تسلم زمامها إلا لأصحاب العقول الكبيرة والكاريزما الطافحة، زمن سي علال و الطريس والمختار السوسي و بلحسن الوزاني وبنبركة وبوعبيد والخطيب …، هؤلاء الذين أثثوا بجدارة مخيال شعب كامل بكل أطيافه واصطفافاته، وشكلوا نماذج مقتدرة لزواج المعنى بالسلوك السياسي على أرضية الالتزام والنبل في “اقتراف” السياسة كفعل إرادي لتحرير الانسان من كل اشكال الاستعباد والاستبلاد، وفي مقدمتها استعباد الذات لنفسها اتباعا لغيها وانجرارا خلف نزواتها، وعدم إلجامها عن “اقتراف” التضخم القاتل لها وللمعنى الذي يعطي لوجودها مبررا، ولفعلها غاية، ولاصطفافاتها فائدة.
غادرنا الزايدي وباها وفي نفوسنا غصة استحواذ البذاءة والبلادة على الأحزاب والشأن العام، فأضحت الاحزاب ساحات للغدر والضغينة تلاشت في فضائها سجالات المعنى ومعارك الافكار وحلت بدلا عنها لغة العصي والكراسي واللكمات والمؤامرات، وأبيحت فيها كل اللغات المقيتة لهدر كرامة المخالف واستباحة الاعراض، وحشدت فيها كل آليات التدمير تحت مبررات لا تقنع أحدا، وبالمقابل تم إتخام الفضاء العام بقضايا العبث، هدرا للمعنى والزمن على حد سواء، حتى بتنا نسمع كلاما لا يقبله حتى المجانين من مثل استدعاء الزمن ” الداعشي” لسجالات سياستنا وكيل الاتهام بلا منطق للمخالفين، من قبيل اتهامهم بأخونة الدولة والتدخل في المؤتمرات وغيرها من الاسقاطات التي تكشف عجزا بينا عن إدارة المعارك “بالمعقول” كما كان يقول الراحل باها دوما وكما جسده الراحل الزايدي رحمهما الله.
تلك هي خسارتنا الحقيقية في فقدان المعنى الجدير بالسياسة، تجسده وفاة الراحلين وهما ينتميان الى مدرستين مختلفتين، إحداهما يسارية الهوى والأخرى إسلامية الجذور والعبور، وينتميان الى اصطفافين مختلفين بحكم مواقع اللحظة بين المعارضة والأغلبية، لعل الرسالة تكمل وضوحها في أن” المعقول” لا هوية له إلا جدارة الانتماء الى الوطن، وأصالة الدفاع عن قضاياه من موقع الالتزام ولا شيء غير الالتزام.