[ After Header ] [ Desktop ]

[ After Header ] [ Desktop ]

[ after header ] [ Mobile ]

[ after header ] [ Mobile ]

تونس بين إرادات النهوض وفرامل النكوص

محمد عصام

ما حدث أمس بتونس عمل إرهابي جبان، مدان بكل اللغات الكائنة والممكنة وحتى المستحيلة، مدان بغض النظر عن الجهة التي اقترفته أو الرسائل التي تريد إيصالها من خلاله، مدان من كل الشرائع والقوانين والأعراف، مدان لأنه موغل في الوحشية، موغل في معاداة الإنسانية، مدان لأنه يستهدف وجودنا وحقنا في الحياة ويصادر اختياراتنا في التنوع والتعدد، ويفرض بالإكراه والدم والألم علينا أن ننتبه إلى جحور الكراهية، وأن نحس بمرارة الغدر تتسلل في جنح الظلام الى أحلامنا، لأنه أرغمنا على البحث في مآقينا على متسع للأمل بدل الدموع، وفي أفئدتنا على إصرار الموت وقوفا بدل الانزواء خنوعا في عبارات التنديد البليدة،  إنه يشبه الموعد الذي يفرض عليك بلا إرادة وأنت المسكون بلقاء الأمل والمستقبل ومطاردة الحلم على ضفاف الحياة الطافحة بالانشراح والأفراح والأعراس، لكنك ستفي بالموعد ولو كرها لتصفع وجه البشاعة بكفيك المصرتين على العناد والجموح، ولتفقأ عين الكراهية التي تقذف الموت والدم والألم، ولكنك بعد اللقاء المشؤوم ستزرع كل الأرض وردا وياسمين وسيزحف الربيع حتما على البشاعة يقتلعها من الجذور.

إن ما حدث بتونس يستهدف التجربة الديمقراطية التي بناها التونسيون في مسار ربيعهم المتفرد، ذلك أن التجربة التونسية استطاعت بتميز لافت الإفلات من شرك الارتداد، والنجاة من محاولة الاستدراج الى مستنقع هدر مفردات زمن الربيع في أتون الصراعات الدموية، رغم أن قوى النكوص وفي محطات مختلفة استطاعت أن تضرب بإيلام في عمق التوافق الوطني في اتجاه خلق اصطفافات وتقاطبات اجتماعية وسياسية حادة ونسج عداوات مفتوحة على لغة الحديد والنار، ولكن في كل مرة استطاعت القوى الحية والتي تخترق بنية النخب السياسية في تونس ومن مختلف الالوان والتشكيلات تفويت تلك الفرص، وربح رهان التوافق على أرضية المواطنة وبناء المؤسسات على أساس الشرعية الديمقراطية وبآليات الحوار والتفاهم، لقد كان السياق الاقليمي والدولي يتجه خصوصا في السنتين الأخيرتين، الى محاصرة قوى التغيير في هذه البلدان، والانقلاب على إرادات الاصلاح باختلاق القطائع والتقاطب المجتمعي حينا، أو من خلال تغذية طموح التحكم لدى قوى تنتمي الى لحظة ما قبل الربيع وتقويتها في سبيل استرداد مواقع الهيمنة السياسية والاقتصادية،  فكانت الحكمة سلاح التونسيين الوحيد، ومركبهم الأوحد نحو بناء الديمقراطية مؤسسات وتشريعات، توجت بإقرار دستور متقدم صالح لتجسيد التوافقات المجتمعية والسياسية عبر تعاقدات ترضي الحد الأدنى لدى فرقاء المشهد السياسي، وتستجيب لسقف معتبر من انتظارات الشعب التونسي، وبتنظيم انتخابات شفافة عبرت عن حقيقة توجهات الشعب التونسي، وبتشكيل حكومة إئتلافية ضمت التشكيلات الأساسية للخريطة السياسية، فخصوم الديمقراطية وأعداء الشعب التونسي والذين يلتقون مع أجندات خارجية في تأبيد حالة الفوضى وضبابية المشهد وانهيار المؤسسات وتلاشي الدولة، هم المستفيدون الوحيدون من إراقة الدم وتعميم الألم في حادث أمس، وهم يشتركون في هوية واحدة تجمعهم وتوحدهم هو العداء التام لتونس وياسمينها.

إن التحدي الأكبر الذي ينتصب اليوم أمام فرقاء المشهد التونسي هو عدم الانجرار الى لغة الانتقام والالتفات الى مضمون الرسالة الموقعة بالدم، وعدم النكوص عن الطريق الذي بدت في الأفق مدارجها وأينعت قطافها، والحفاظ على روح التوافق الذي جسدته الحكومة في تشكيلتها، وما بذل من جهد ومن تنازلات حتى استوى البناء على ما هو عليه، وأن أي انجرار قد تولده نزعة انفرادية أو تضخم للذات سيؤدي حتما الى انهيار البناء على الجميع، ورسائل الجوار القريب الموغلة في الضبابية والمفتوحة على المجهول أبلغ وأشد وطئا من الاستهداف الإرهابي، الذي من المؤكد أنه موجع ولكنه يجب أن يكون مفيدا في اتجاه الالتفاف على الوحدة الوطنية والاحتماء بركن الوطن الشديد والمتسع للجميع. 

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.