محمد عصام
تتداول وسائل إعلام وأطراف سياسية، ما اعتبرته اكتشافا غير مسبوق، وصيدا لا يقدر بثمن، حين نفخها في موضوع مطبعة تنسب ملكيتها إلى الأمين العام لحزب العدالة والتنمية ورئيس الحكومة، وبالتالي الطعن فيما سبق أن صرح به هذا الأخير في كونه لا يملك أي شيء عدا مشروع صغير لإنتاج مادة جافيل بشراكة مع آخرين، وأنه يكلفه خسارة ما بين 40 و50 الف درهم سنويا، وأن حرصه على عدم تشريد العاملين فيه هو الذي جعله يحتفظ به الى حدود الساعة، وحيث إن هذا الموضوع اتخذ أبعادا أخرى، وتم النفخ فيه الى درجة أصبحت بعض المنابر تخصص له افتتاحياتها، وتطوعت الألسن المعلومة الأشحة على الخير لكي تخلق منه انزياحا في النقاش العمومي، وتدخلت تلك الايادي الآثمة المسكونة بحسابات المواقع المريضة والمدمنة على الحروب الصغيرة، تلك الأيادي والإرادات التي ستكثر جعجعتها هذه الايام وسيقل حتما إن لم نقل ينعدم طحينها، خصوصا ونحن نستقبل زمنا انتخابيا بامتياز، لهذه الاسباب من المفيد إبداء هذه الملاحظات:
– مفهوم أن تتلقف المعارضة التي لا يسر حالها الناظرين، هذه الاتهامات، وتعمل على الترويج لمثل هذه الاكاذيب، محاولة لخلق رأي عام لم تستطع يوما أن تتجاوب مع نبضه ولا أن تكون ولو لحين محط ثقته، وذلك بحشر رئيس الحكومة في زاوية المتهم بالكذب وذلك لضرب الرأسمال الرمزي الذي يخلق الفارق بينه وبينهم، وهو ما عبرت عنه كل استطلاعات الرأي التي كشفت أن منسوب ثقة المواطنين في رئيس الحكومة في اضطراد مستمر، حيث عبر الاستطلاع الأخير لمؤسسة “افرتي” لصالح مركز طارق ابن زياد، عن تقدم مستوى ثقة المواطنين في رئيس الحكومة بنسبة 11 في المائة مقارنة مع آخر استطلاع قبل ستة أشهر، وبالمقابل مازالت الثقة في المعارضة ورموزها في الحضيض وإلى إشعار غير معلوم، ثم إنه كما قلنا سابقا فإن السياق الانتخابي ضاغط وحاضر بقوة في حسابات المعارضة بل إننا نقول وبدون مجازفة، إن الترويج لهذا الخبر ليس إلا تسخينات ستعقبها بالأكيد جولات من الافتراء والكيد، مادامت بضاعة المعارضة من المصداقية والتجرد صفرا، ومادامت الإرادة السياسية عندها منعدمة في جعل الاستحقاق المقبل محطة لبناء نموذج جديد في الممارسة السياسية يتوسل الكشف عن نفسه بأدوات المقارعة الشفافة، وتكثيف النقاش السياسي المستند على طرح البدائل والانتقاد وفق وضوح في التصور وانسجام مع الاختيارات، أما الاقتيات من فضلات “البوليميك” فإنها لا تعبئ للمصداقية رصيدا، ولا تثمر للسجال السياسي فائدة، وهو من قبيل اللغو المأجور حتما تركه.
– لقد مر على تجربة الحكومة التي يقودها العدالة والتنمية ثلاث سنوات، دون أن تستطيع أصابع الاتهام أن تمتد لواحد من وزرائها بتهمة الاغتناء من المال العام، رغم حرص خصوم التجربة الذين تحسبهم واحدا وقلوبهم شتى، على تتبع ” الشاذة والفادة” من دون أن تسعفهم عيونهم المتلصصة في الظلام، ولا فيالقهم الإعلامية المأجورة، في فتح ملف واحد مهما هزل في هذا الشأن، في المقابل ما زالت ملفات الفساد تترى في ملاحقة رموز المعارضة وآخرها ملف المسؤول الاستقلالي بمدينة مراكش والتي قضت فيه المحكمة بالإدانة وثبوت تهمة الفساد في حقه، بل إن المجلس الاعلى للحسابات وبعد افتحاصه لجماعات ترابية وقف على خروقات جمة في مجموعة منها، وأحال ملفاتها على القضاء وزير العدل والحريات، وهو الأمر التي تصدت له المعارضة في محاولة منها للضغط من أجل إيقاف التحقيقات المفتوحة بدعوى أن الوزير يستهدف المعارضة ويتعامل في تفعيل المحاسبة بمنطق الانتقائية.
إن المعارضة يجب أن تستوعب أن التحول المغربي ليس قوسا قد تم فتحه بخطاب 9 مارس وسيتم غلقه مباشرة بعد انتخابات 25 نونبر، بل هو زمن مفتوح ولا حد له، ونفس عام لا يقبل التأجيل أو التبعيض، وهو قبل هذا وذاك استحقاق للشعب المغربي لا رجعة فيه، وأن نسائمه طوعا أو كرها لابد أن تخترق سياجات الوهم التي بناها سدنة بعض الاحزاب المغربية، وأن لحظة الحساب لن تستثني أحدا ما دامت داخلة ضمن مشمولات التعاقد الذي وقع به المغاربة ربيعهم.
ثم من جهة أخرى فالمغاربة أدركوا الفرق الحاصل بين تجربتهم الحكومية الحالية وما سبقها من التجارب، وذاكرة المغاربة ستحتفظ بأسماء من مروا في تدبير الشأن العام وأصبحوا يملكون شققا فارهة بباريس، وأولئك الذين كانوا قبل توليهم المسؤولية مجرد موظفين متوسطين فاصبحوا ملاكا للمزارع ومربين للخيول، كما أن المغاربة لن ينسوا أبدا من كان وزيرا ثم مسؤولا عن مؤسسة مالية وطنية فحول منشآتها وفنادقها الى ريع عائلي وأموالها الى غنيمة مستباحة ومازالت ملفاته معروضة على القضاء وغير هؤلاء كثير.
– حديث المطبعة الموهوم، والذي اعتقد البعض أنه سيكون قاصمة لابن كيران وصحبه، ليس سرا ليكون للمعارضة شرف كشفه، بل إن ابناء الحركة الاسلامية وتحديدا الذين انحدروا من التوجه الذي اثمر العدالة والتنمية، يعرف أصغر واحد منهم أن تلك المطبعة مملوكة للحركة، وأن وضع الحركة غير المعترف به آنذاك حتم تسجيل ممتلكاتها بأسماء قادتها، ثم إن تلك الاحزاب المشكلة اليوم للمعارضة مازالت أملاك ومقرات لها في أسماء الأموات من زعمائها وهذه حقيقة يعرفها الجميع، بل إنها صارت من المعلومات في الشأن العام المغربي بالضرورة، ويرجع الفضل لهذه الحكومة في إتاحتها إمكانية تسجيل ممتلكات الاشخاص المعنويين بأسمائهم عبر مرسوم في هذا الشأن، ولكن نحن نعلم نوع الحسابات التي تحكم المعارضة فلا يهمها أن تكون كل ممتلكاتها مسجلة بأسماء الاموات ولا أن تكون محل تنازع بينها وبين ورثة الهالكين ممن سجلت بأسمائهم، أكثر ما يهمها أن تشوش على انسياب الثقة بين المواطنين ورئيس حكومتهم، ويزعجها ان لا تتأثر تلك الثقة بكل القصف الذي انخرطت فيه المعارضة مسخرة الأموال والأنفس والثمرات وكثيرا مما لا نعلم من أصحاب الاقلام المأجورة والألسن المسخرة.
– المعارضة أو النخب التي افرزها الوضع السابق للممارسة السياسية يفزعها أن يؤثث النقاش السياسي بخطاب الصدق والوضوح مع الناس، ويقض مضجعها أن يتم نحت نموذج لمسؤولين لا يضيرهم أن يصرحوا على رؤوس الأشهاد أنهم كانوا في يوم من الأيام يشتغلون بإنتاج مادة جافيل أو الانتماء الى أوساط تعتبر في منطق هؤلاء غير مؤهلة لارتياد مراتب المسؤولية أو مجاورة الطبقات المخملية التي تورث المسؤولية والنفوذ كما تورث النسب والمال، لقد حاول تجار الوهم أن يزيحوا الرأي العام عن التقاط دلالات أن يكون رئيس حكومتهم يمتهن ذات يوم تلك الحرفة جراء أدائه لضريبة الاعتقال والطرد من الوظيفة العمومية، بل إنه يفاخر بها ويعتز بها، في انسجام تام مع اختياراته في التشغيل، وبهذه المناسبة أفتح قوسا لأحكي حكاية عشتها مع الاستاذ عبد الإله بن كيران كان لها وقع كبير في حياتي وبصمت مساري منذ لقائي به، ذلك أنه كان لنا في مدينة سيدي إفني شرف استضافته سنة 2000، يومها لم يكن لا رئيس حكومة ولا أمينا عاما للحزب، وبعد تأطيره لمحاضرة في الشأن السياسي المغربي وتحولاته، تشرفت بمرافقته لمطار المسيرة بأكدير، وفي الطريق سألني عن مهنتي، وكنت حينذاك أشتغل سائقا لسيارة أجرة صغيرة بسيدي إفني بعد تخرجي منذ سنوات من الجامعة، وكنت مستاء ومتذمرا من وضعي، فما كان منه إلا أن سرد لي حكايته وأنه ليس عيبا أن يشتغل الإنسان بأي عمل شريف، وأن الذي يصنع مكانة الرجل علمه وأخلاقه، وما عدى ذلك فإن الأرزاق يتدبرها الله عز وجل وفق علمه وإرادته الازليتين، ومما قاله لي أنه لن ينس أبدا أن أول يوم اشتغل فيه بانتاج مادة جافيل لم يتعد مدخوله 12 درهما وأنه كان سعيدا بذلك غاية السعادة، وكان يحفزني على المبادرة الخاصة وعدم انتظار ما يأتي او لا يأتي، وحكى لي أن مشروعه آنذاك كان ناجحا واستفاد من نجاحه أشخاص آخرون من ضمنهم حاصل على دكتوراه اعتقد في الفيزياء، لقد كانت لي تلك الرفقة بمثابة تحول في مساري وفي نظرتي لأمور كثيرة، واكتشفت أن الرجل قبل أن يكون صادقا مع الناس كان صادقا مع نفسه بشكل غريب.
ولهذا أقول للنافخين في الرماد ولتجار الوهم، إن المصداقية ليست أصلا تجاريا يمكن اقتناؤه أو استعارته، وليست أيضا قناعا يمكن وضعه الى حين، إنها مبادئ تزرع، وتربية تتعهد الزرع، ومسار يختبر الأنفس، ويمحص النوايا، فيرفع أقواما ويخفض آخرين، ومسار الرجل لم يبتدئ مع رئاسة الحكومة ولن ينتهي بنهايتها التي لا يهابها ولا يفزع منها، إن المصداقية رسالة أعمار وسيرورة أفعال، ولن تدركوها لا بالتمني ولا بالتجني، وقد تحداكم مرارا “من يريد أن يهزمنا فليكن أحسن منا”