محمد عصام
هل من قدر هذا البلد الأمين أن يكون استثنائيا في كل شيء؟ وأن يكون استثناؤه هذا ممتدا الى درجة شمول المزايا والرزايا على حد سواء؟ أم أن مكر التاريخ الذي يتربص بنا في منعرجات الزمن وتموجاته السريعة والحادة، يريد برجاته حينا أن يذكرنا ببقايا قبح عالقة في محيا حسن عبورنا عبر التاريخ وتوقيع حضورنا في الزمن وفي صلب الاحداث فاعلين ومنفعلين؟ تلك الاسئلة كانت كل تركتنا من مرور فاتح ماي لهذه السنة، الذي حاول البعض أن يلبسه ثوب الحداد وأن يوشحه بالسواد، وأن يجعل منه عيدا بلا عمال، وعمالا بلا عيد، ففي سابقة من نوعها في تاريخ فاتح ماي منذ أن تم عقد قرانه على فرحة العمال عيدا لهم، قاطعت مركزيات نقابية احتفالات هذه السنة، بدعوى انسداد افق الحوار مع الحكومة وعدم جديتها في الاستجابة لمطالب المركزيات خصوصا مطلب الزيادة في الأجور.
وقبل تمحيص هذه الدعوى ومقاربة فحوى الاستثناء المشار إليه أعلاه، نود التأكيد أن قرار المركزيات النقابية هو قرار سيادي لا أحد يملك سلطة التدخل فيه، ولكن هذا لن يمنعنا مطلقا من طرح اسئلة حول منهجية اتخاذ هكذا قرارات داخل التنظيمات الوطنية سواء كانت نقابات أو احزابا أو جمعيات، وهي اسئلة مشروعة بحكم السياق السياسي الذي نعيشه والذي أعلى من شأن الديمقراطية التشاركية، بل إنها أضحت اليوم من المحددات الاساسية في تشكيل الهندسة الدستورية، ذلك أننا نعتقد أن قرارا من حجم حرمان الشغيلة من فسحة العيد العمالي بما هي فرصة للتذكير بالمطالب المشروعة في الحماية الاجتماعية والاحتفاء بالعمل وأهله قيمة ووظيفة، لا يمكن التجرؤ عليه دون استشارة أهله، كما أن الرسالة المقدمة من خلاله نظنها قد أخطأت العنوان مطلقا، فإن كان القرار كما صرح بذلك من اتخذه، يستهدف الاحتجاج على الحكومة، فإنه وبعيدا عن مضمون الاحتجاج ومشروعيته، كان يقتضي استثمار فاتح ماي للاحتجاج على ما اعتبرته النقابات مبررا لها في اتخاذ هذا القرار وليس العكس، وأن يكون فاتح ماي تأسيسا لترافع عمالي وبناء لتنسيق نقابي على أرضية هذه المطالب.
من جهة أخرى دعونا نكن أكثر عمقا ولنطرح الاسئلة الحقيقية والأكثر إيغالا في كشف مكنون تدافعات اللحظة المحكومة بالسياق السياسي، إذ أنه من السخف البين الاعتقاد ومحاولة الايهام أن الاصطفافات السياسية بعيدة عن تشكيل وصياغة مثل هذه المواقف، حيث إننا نجزم أن الإيقاع الذي ارتفعت وثيرته في السجال السياسي بحكم اقتراب الاستحقاقات الانتخابية ألقى بثقله في تحديد الأجندة النقابية، فكيف أنه حتى في سنوات الرصاص والتضييق على الحريات العامة وفي مقدمتها الحريات النقابية، لم يسبق لنفس النقابات أن اتخذت مثل هذا الموقف، وبالتالي فإننا نعتقد أنه كما حمى وطيس القصف السياسي بحكم دنو موعد الانتخابات، وارتفع منسوب التصعيد في خطاب المعارضة حيث وصل درجة المطالبة باستقالة رئيس الحكومة ضدا على الدستور واستخفافا بالإرادة الشعبية التي لها فصل المقال والحكم النهائي في مثل هذه الحالات، فإن النقابات قد وصلتها حمى هذه “الحرارة ” المرضية بحكم قرابتها السياسية وحتى العضوية بالأحزاب وتحديدا المعارضة، مما يجعلنا نعيد طرح سؤال الاستقلالية في العمل النقابي، مع استحضارنا للسياق التاريخي الذي تشكلت فيه الاحزاب والنقابات على حد سواء، والذي كان مرتهنا لخيار التعددية الذي ساهمت فيه ظروف موضوعية أكثر من كونه اختيارا إراديا لكل الأطراف.
كما إننا نذكر بأن أسوأ ما يمكن أن تقترفه الاحزاب السياسية والنقابات على حد سواء، هو احتكام قراراتهما لأجندة محدودة في الزمن وفي الأثر كالانتخابات مثلا، فكل الدراسات على سبيل النموذج التي تناولت وضعية أنظمة التقاعد بما فيها ما قام به المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي تجمع ضمن اختلالات كثيرة ساهمت في تأزيم وضعية صناديق التقاعد وتهددها بالإفلاس، الى سخاء تلك الأنظمة ذاتها، وكلنا يتذكر السياق الذي اتخذ فيه ذلك القرار من طرف حكومة التناوب التي كانت في حاجة الى “رشوة انتخابية” وهي على أبواب نهاية ولايتها، ونفس الأمر يمكن أن ينطبق على اتفاق 26 ابريل، والتي تحملت هذه الحكومة فاتورته المالية والمتمثلة في4 مليار درهم كلفة الوفاء بالتزامات الترقية فقط، كما أن كتلة الاجور وصلت في سنة 2014 الى 6،101 مليار درهم، بنسبة 2،11 في المائة من الناتج الداخلي الخام، وكان من الاولى اليوم أن يتم نقاش مطلب الزيادة على ضوء هذه الإكراهات بدل المتاجرة به في سوق الانتخابات، وإقحام النقابات والعمال كرها في هذه المعركة، وكلنا التقط رسالة السكوت التي عبرت بها نفس النقابات من الزيادة السنة الماضية في الحد الادنى من الاجور، كما نلتقط اليوم نفس الرسالة بخصوص مجموعة من الاجراءات النوعية التي تستحق ان تكون بديلا في سلة مكاسب الشغيلة والطبقات الاكثر هشاشة عن اي زيادة مرتقبة، من قبيل التعويض عن فقدان الشغل، ومنحة الارامل وغيرها، فهل سكوت النقابات سيحجب الحقيقة عن العمال، أم تراه هذا هو السؤال الذي كان يخيف النقابات لو أنها خرجت للشارع احتجاجا أن يمنع أصحاب الشأن من مسايرتها، وبالتالي الخوف من فشل الخروج مع وجود سوابق كافية للتدليل على محدودية الحشد لدى هذه المركزيات؟ إنه مجرد سؤال وهو كل ما تبقى لنا من فاتح ماي؟