الموقع
ألا يستحق رجل الأمن الذي سقط في ساحة الكدح والواجب بطنجة أن نتداعى لقضيته تعريفا وتضامنا وتنديدا بهدر دمه بتلك البرودة والاستهتار المقززين؟ أليس دمه جديرا بإخراج كل ذلك السيل من العرم من البيانات التي ينثر حبرها عبارات التضامن والتنديد يمنة ويسرة وبسخاء باذخ في قضايا أقل وبحسابات بطبيعة الحال أضيق من سم الخياط؟ ألا يليق دمه أن يكون داعي انبجاس الشارع في أشكال تضامنية؟ ثم لماذا لزمت الهيئات الحقوقية الصمت وابتلعت لسانها الذي لا يخطئ موعدا أقل من هذا لتثور غضبا على حق حياة مهدر أو حق تعبير مغتصب أو حتى حق تعر يراد له أن يكون مكتسبا؟ ثم لماذا توارت الأحزاب إلى الوراء وهي التي تحملها عادة حمية الجاهلية للترافع ولو قسرا عن كل شيء وفي كل شيء وبلا شيء؟ أين ذهب كل الحماس والصراخ والتداعي الذي رافق قضية ” الصايات” وقبلها قضية “الثريات” وبعدهما ولن يكون آخرهما النبش في الأعراض ولوك لحوم الخصوم بالباطل وهلم قضايا من هذا الصنف ودونه؟ أم أن الغطاء قد انكشف وسقطت الأقنعة عن الوجوه الكالحة التي لا تحمل من الإنسانية إلا الإسم، ومن المبدئية إلا الرسم، ومن الدفاع عن حقوق الانسان إلا الإدعاء؟! أم أن دم شهيد طنجة من الدرجة الثانية أو الرابعة التي تليق بحبر محبرتهم التي يقطر عنصرية واستعلاء؟ أم أن العائد في هذه الحالة لا يغري الى درجة أن يستثير حمية الإنسانية في قلوب البعض المسكونة بالحسابات الضيقة واحتراف معارك المزايدة، خصوصا وأن القضية لا تسمح أن تكون مطية لقضم رصيد خصم أو مناسبة لبناء اصطفاف في مقابل جهة معينة لصالح أخرى.
إن الشهيد الذي سقط بطنجة عنوان للمواطنة الحقة حين تنتصر لمبدأ الواجب، وتنحاز للغة البذل بدون مقابل، وتسترخص المهج فداء للوطن وقربانا للواجب، فكل متنكر لدمه فهو منحازٌ بالضرورة لخندق الاستهتار بالواجب والغٌ في جرح الوطن، إذ لا معنى لكل الصراخ والتهويل ترافعا ضد فساد هنا أو هناك في سلوك بعض رجالات الأمن او تنديدا بشطط البعض منهم في استعمال ما خُوِّل لهم من سلطة وصلاحيات، إن لم نقف وبلا تردد تعظيما لشهامة شرطي طنجة، ولا خير في دعوانا ولا مؤسساتنا حزبية كانت او حقوقية، شبابية أو مدنية، إن لم نجعل هذه المناسبة فرصة لتكريم ذكراه، وإن لم نتداعى لنصرة دمه والمطالبة بالقصاص الحق له، وبالحماية لزملائه ممن يتنسكون في محارب الواجب عطاء وبذلا.
ولنعد بعد هذا لنناقش الفتور في سلوك الفاعلين بمختلف مستوياتهم والذي تحدثنا عنه في السابق، فبالإضافة إلى ما ذكرناه من عدم التقاط البعض لرمزية التضحية التي قدمها شرطي طنجة، خصوصا وان إيقاع التفاعل مع مثل هذه القضايا في غالب الأحيان تحدد حجمه ومداه جدوى العائد منه وتحديدا العائد السياسي، فإنه لابد من الإشارة بأصبع الاتهام إلى ثقافة تم تكريسها في سلوك بعض النخب، تجد جذورها من تقاليد فكرية بأبعاد سلوكية، طبعت مسيرة تيارات كانت مهيمنة في حقب ماضية، تمتح جدوى وجودها من شيطنة أجهزة الدولة وتحديدا الأجهزة الأمنية، وتذهب بعيدا في إدانة كل المشتغلين فيها، إلى درجة خلق أسطورة لا وجود لها إلا في أذهان صانعيها، تقتضي مفاصلة العاملين في تلك الأجهزة ولو كانوا من أولي القربى، بل إن رواسب حقبة الستينيات والسبعينيات وحتى الثمانينيات، ذهبت بعيدا في تلك الشيطنة، إلى درجة اختلاق تهمة جاهزة في كل مكان وزمان، وصالحة لكل الخصوم دون بيان، وهي البولسة، إذ كان من المعتاد الذي درج عليه سلوك بعض تيارات تلك المرحلة ان يُتهم كل مخالف في الرأي بأنه بوليسي، ويتم على أساس ذلك تخوينه، في أفق ترتيب الجزاء عليه والذي يبتدئ من المفاصلة وقد لا ينتهي إلا بالتصفية مرورا بكل أنواع التبخيس والاستهداف والتخوين، هذا السلوك إن كان مبررا في تلك الحقب المطبوعة بمنطق المنازعة الذي ينتصر لبقاء الذات والقبيلة السياسية ولو على جثث الآخرين، فإن لا شيء اليوم يبرر هذا الجفاء الذي استقبل به دم شهيد الواجب بطنجة، إلا إذا كان أصحابنا مازالوا يعيشون بمنطق السبعينيات وتوقفت لديهم عقارب الزمن، فالشرطي مواطن مكتمل المواطنة وهو قبل ذلك إنسان لا تقبل انسانيته التصرف او التبعيض او التنقيص، وكل تخاذل في هذه القضية في أبعادها الحقوقية والقانونية يدين المنتسبين للحقل الحقوقي ويدين السياسيين والجمعويين على حد سواء، وأن أبعاد الجريمة المقترفة بطنجة لا تقف عند حدود دم الضحية، بل تتعداه لمساءلة ذواتنا الفردية والجماعية عن منسوب العنف المنتج في سلوكنا، وأن ندق ناقوس الخطر بسبب كل هذا العنف الذي يقضم مساحات التسامح والتعايش الذي طبع مجتمعاتنا، حتى بدأنا من فرط الإلف نُطَبِّع مع أخبار الاغتصاب وعنف الفروع ضد الأصول، وعنف التلاميذ ضد أساتذتهم و تحول المدارس والفضاءات المحيطة بها الى ساحات للجريمة وتعاطي المخدرات، وتحولت ملاعبنا من فضاءات الفرجة الى ميادين للموت الذي يأتي بلا ميعاد، تلك هي قضايا أساسية نتجاهلها بسبق الإصرار لكي نخلق من الفقاعات والوهم سرابا نلهث خلفه حتى إذا جئناه لم نجده شيئا.