كلمة الموقع:
اختفى من قاموس التداول السياسي ما كانت المعارضة تدمن استعماله والتلويح به بمناسبة أو بدونها، واعتبرته في كثير من الأحيان سلاحها الفتاك في منازلة الحكومة وأغلبيتها، وأصلا تجاريا محفظا في رصيدها لا ينازعها فيه أحد، خصوصا وأنه يكتسي جاذبية لا تخطئها العين، ويمتاز بفاعلية في كبح سير الخصم ومحاصرة طروحاته حتى قبل نقاشها وسبر مضامينها وقياس نجاعتها، حيث إن المعارضة وطيلة المدة السابقة من عمر هذه التجربة الحكومية كانت تحتمي بشعار يوفر لها حماية بالغة ويعفيها من تبعات المنازلة الندية للبرامج والبدائل، وذلك بلوك عبارة سهلة على اللسان، خفيفة في الميزان، عقيمة في البيان، ويتعلق الأمر بالدفع بمقولة التأويل الديمقراطي للدستور، حيث بدا واضحا في الآونة الاخيرة أن هذا السلاح قد استنفذ أغراضه ولم يعد ممكنا الاحتماء بمفعوله خصوصا أن الوقائع أثبتت بالملموس عدم كفاية المعارضة في تمثل الديمقراطية ثقافة وسلوكا، وأن حنينا جارفا يجرها بوعي أو بغيره الى اقتراف موبقات كبرى في ادعائها الديمقراطية، ففاقد الشيء لا يعطيه، أما حكاية الدستور وتأويله فهي من قبيل الحق الذي يراد به الباطل لا أقل ولا أكثر.
كان ممكنا للمعارضة أن تحوز جدارة الدفاع عن ما “اسمته بالتأويل الديمقراطي للدستور” لو أنها تحرت تدقيقا لهذا المفهوم يهب له كينونة معلومة في المعنى والمبنى، محددة التقاسيم والملامح، غير حمالة للأوجه المتنافرة ولا مرتبكة الخطوات مضببة الرؤية، كان ممكنا أن تنال شرف المرابطة على ثغر سمو الوثيقة الدستورية لو أنها انخرطت بتجرد في تنزيل الجزء الثاني من تلك الوثيقة والذي يتعلق بالقوانين التنظيمية، فإذا كانت الحكومة امتثالا للمقتضيات الدستورية قد ألزمت نفسها- في خطوة غير مسبوقة- باستكمال البناء الدستوري عبر وضع مخطط تشريعي واضح الالتزامات والمواعيد، ويبتغي في شق منه النهوض بواجب إخراج القوانين التنظيمية كما هو منصوص عليه في الدستور في سقف الولاية الاولى التي تعقب إقرار هذا الأخير، فإن المعارضة وللأسف الشديد أخطأت مرارا موعدها مع التاريخ وخذلت الدستور عوض أن تبرئ ذمتها نحوه وهو الذي مكنها من مكانة غير مسبوقة في تاريخ المغرب، وأناط بها أدوارا حاسمة في التشريع والرقابة لم تستطع إلى اليوم النهوض بها قياما وإحسانا.
ففي تاريخ المعارضات التي عرفها المغرب وحتى في عز سنوات الرصاص وضيق أفق ديمقراطيتنا الوليدة، التي اعتراها ما يعتري كل الصيرورات من ضعف النشأة والميلاد الى عافية الارتقاء ونضج الثمرات، لم يسبق أن تلبست تلك المعارضات رغم ذلك بجريرة عرقلة عمل المؤسسات، ولنأخذ مثالا على ذلك ما قامت به المعارضة في مقاربة القوانين التنظيمية والتي من المفترض أن تتجند المعارضة كما الأغلبية على حد سواء على حسن عملية إخراجها، باعتبار قيمتها التي تتجاوز عمر حكومة من الحكومات، و عائدها الذي يتخطى أن يكون فوزا سياسيا أو خسارة ماحقة لخصم معين، فكلنا يتذكر الحكاية السيئة لانسحاب المعارضة من لجنة الداخلية وهي بصدد نقاش القانون التنظيمي للجهات وتلويح بعضهم بمقاطعة الانتخابات، نفس القصة يتم تكرارها بغباء فاضح بخصوص قانون الحصول على المعلومة، لكن أكبر الفظاعات التي ارتكبت تتعلق بالقانون التنظيمي للسلطة القضائية والقانون الأساسي للقضاة، حيث أنه رغم مرور ما يكفي من الوقت لكي يتم التصديق النهائي عليهما وهو ما يقارب السبعة أشهر على إحالتهما على مجلس النواب، وبعد أخذ الوقت الكافي في المناقشة العامة والتفصيلية طبقا لمسطرة التشريع المنظمة لعمل اللجن النيابية، فقد عمدت المعارضة إلى التمديد غير المبرر لمرحلة تقديم التعديلات ولمرتين متتاليتين مما يكشف نيتها في هدر الزمن التشريعي وبدون مسؤولية، ويعري خطابها في ادعاء التأويل الديمقراطي للدستور، وهو على كل حال أسلوب تنهجه المعارضة في كل اللجن وفي تأخير إخراج كل القوانين الأخرى ويمكن الرجوع الى محاضر اللجن لكشف من استعمل طلبات التأجيل بمناسبة وغيرها لتأكيد هذا الأمر، -إنما حديثنا في هذه المقالة عن القوانين التنظيمية حصرا- ثم بعد ذلك ستلجأ المعارضة إلى الحل السهل بالانسحاب من اللجنة، بعد ما أثبت النقاش خلو جعبتها عن اقتراحات تجود بها للنص المطروح للنقاش خصوصا المادة 51 التي هي مربط الفرس في هذا القانون، حيث أن الأغلبية قدمت تعديلات بنفس توافقي يروم إخراج هذا القانون من عنق الزجاجة، بتقديم مقترحات تضمن خضوع منفذ السياسة الجنائية لرقابة السلطة التشريعية وفي نفس الوقت تمتيع السلطة القضائية بالاستقلالية كسلطة قائمة الذات، هذا الانسحاب غير المبرر ستكشف الأيام تماهيه مع رغبات جهة خارج المؤسسة التشريعية تحاول فرض رقابة على المؤسسة بما يخدم مصالحها الفئوية، ورغما عن ذلك وإعمالا للمادة 144 من النظام الداخلي لمجلس النواب سيعود هذا المشروع الى اللجنة بعد أن صادقت عليه الأغلبية عقب انسحاب رئيس اللجنة وفرق المعارضة، فهل سيكفي هذا المعارضة لتعيد ترتيب سلوكها بما يتوافق مع التزامات اللحظة السياسية ويتصالح مع منطق الدستور؟ أم أن دنو موعد الانتخابات التي عمدت المعارضة الى تأجيلها بسبب أو بدونه، أفقدها صوابها، وهي التي لم تسعفها كل المناورات للظفر بأي شيء يمكنها من هزم خصمها بعد أربع سنوات من التدبير؟ فلا ملفات فساد أحكمت زمامها، ولا شرود سلوك سياسي التقطت نشازه، ولا قوانين عطلت تنزيلها، ولا مغنما حصلت عائده، ولا مغرما ألحقت بخصومها؟
فرجاء اكشفوا للمغاربة ماذا تريدون بعيدا عن الدستور فإنه أكبر هامة وأرقى مدرجا من حضيض ادعائكم وإفك بيانكم.