كلمة الموقع
في خضم لجة التدافع الطبيعي الذي يرافق أي عملية انتخابية، يجتهد البعض في حشد كل آلياته لاستباحة خصومه، واستعمال كل الوسائل التي تمكنه من كسر عظامهم، ولو اقتضى الامر امتهان الكذب واحتراف الإفتراء، واستباحة الأعراض وانتهاك الحرمات، لكن اللافت في الحملات التي يتعرض لها حزب العدالة والتنمية في هذه المرحلة التي تفصلنا عن فترة الحملة الانتخابية الرسمية، بعد أن أعيى أصحابها ركوب كل تلك الموبقات، هو دأب البعض في هذه المرحلة بالذات على اختلاق ثنائية مقيتة تسعفه في بناء ركام من الاوهام، وتشييد قصور من الزيف لا تصمد أمام الجلي من الحقائق، ولا تسندها الوقائع ولا تقبلها العقول المستنيرة بنبراس التمحيص والمتكئة على البينات من الوقائع والحقائق، هذه الثنائية تنبني على ادعاء وجود منطقين داخل الحزب، يستدعيان فرزا داخليا ينتج تقاطبا حادا بين تيار للحمائم وآخر للصقور، مع استثمار مرحلة الحسم في اللوائح الانتخابية لخلق جاذبية ذات مردودية لهذا النوع من الإدعاء، إذ ليس أسهل من اختلاق التناقض في هذه اللحظة وادعاء وجود غاضبين لإعطاء مبرر لمثل هذا الحديث المغرق في البهتان والاختلاق.
إن كثيرا من خصوم العدالة والتنمية وباختلاف مواقعهم وتباين دوافعهم في هذه الخصومة، لا يستطيعون التمييز بين خصوصية هذا الحزب وتميزه عن بقية فرقاء المشهد السياسي، حيث يتم إسقاط كل علل هذا المشهد على الحزب، وافتراء وجود تناقضات تصل الى درجة التقاطع، دون أن يكلف هؤلاء أنفسهم تمحيص هذه الإسقاطات وامتحان قدرتها على إنجاز قراءة منصفة وعلمية للسلوك السياسي الذي تنتجه العدالة والتنمية سواء في تدبير العلاقات التنظيمية أو في التفاعل مع المجال شخوصا وأحداثا ومواقف، ولن ندعي محالا إذا قلنا إن حزب المصباح وبشهادة الخصوم قبل الاصدقاء، جسد فارقا في الحياة السياسية الوطنية من حيث تمثله لقيم الديمقراطية وهو الأمر الذي تكشفه محطاته الانتخابية والتراكم الحاصل لديه في المساطر والقوانين المؤطرة لمثل هذه المحطات، حيث إنه قطع نهائيا مع منطق منح التزكيات بالمقابل، او إعطائها لمظليي آخر ساعة من محترفي الانتخابات، وشكل استثناء في المشهد السياسي المنفتحة شهيته بلا حد على استقطاب الاعيان والكائنات الانتخابية ذات الدربة على اجتياز مفازات الحملات الانتخابية بأكبر عائد ممكن بغض النظر عن القيمة المضافة المنعدمة والأعطاب الماحقة التي تلحقها تلك الكائنات بالممارسة السياسية برمتها، وتعميق العزوف لدى فئات عريضة تجد نفسها غير معنية بهذا العرض الهزيل والهزلي الذي يقدمه المشهد السياسي.
من جهة أخرى لا يستطيع هؤلاء قراءة سلوك بعض قيادات العدالة والتنمية حين تعتذر عن تصدرها لبعض اللوائح، لأن هذا السلوك يكاد يكون شاذا في مشهد تؤثث فضاءاته تنافسية مرضية حول المواقع والمراتب، ويختزل فيه الإيقاع السياسي على مجرد صراعات محمومة حولها وتكشف نزوات مرضية لأصحابها، وتختصر الفعل السياسي عموما وسلوك منتجيه في مجرد مصالح تدبر تقاطعاتها بغطاء السياسة ليس إلا، في حين لا مجال للبحث في اعتذارات بعض قيادات العدالة والتنمية عن خلفية لتدافع مصلحي او ضغوط لجهة معينة لإقصاء طرف محدد، بل هو سلوك طبيعي يندرج ضمن منظومة القيم التي يتبناها الحزب وينحاز الى مفرداتها، تجعل من المسؤوليات تكليفا تنوء عن حمله الجبال الراسيات، وتعبأ في سلوك المعتنقين لها رصيدا وافيا من الزهد في المسؤوليات والإحجام عن مرابعها مهما كانت جاذبيتها.
وفي هذا السياق اجتهد البعض في تمرير هذه المغالطات، بادعاء أن قيادة العدالة والتنمية وتحديدا الأمين العام، قد عمد الى إسقاط بعض “صقور ” الحزب من تصدر لوائح الحزب في بعض الدوائر الانتخابية، حرصا منه على استدامة الثقة بينه وبين ما اسموه “بالدولة” أو حينا آخر “بالدولة العميقة”، وبالتالي فإنه بذلك الإقصاء يبعث بالرسائل المناسبة لتلك الجهات ويضحي من أجل ذلك برموز ذات عائد انتخابي مقدر، وهذه القراءة تعتورها عيوب كثيرة نجملها فيما يلي:
– إن بناء الثقة والحرص عليها ليس سرا تكشفه محطة الانتخابات، ذلك أن رئيس الحكومة الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، لا يترك فرصة تمر دون التأكيد أن الثقة بين المؤسسات هو جواز سفرنا نحو الإصلاح، والضمان لتعبئة قوى الوطن لتوقيع مرحلة الانتقال نحو الديمقراطية، بل إنه جسد طيلة مساره السياسي والذي امتد لأكثر من أربعة عقود مدرسة خاصة في تثبيت مفهوم التعاون بديلا عن المنازعة التي أطرت التدافع السياسي بالمغرب لعقود وتحديدا في مرحلة ما اصطلح عليه “بسنوات الرصاص”، وأن المغرب ليس من قدره استدامة صراع موهوم على السلطة، يكون الخاسر فيه هو الوطن على الدوام، وأن حصادنا من ذلك الصراع لم يكن إلا حصاد “حلم وغبار” كما أسماه عبد القادر الشاوي أحد من عاشوا تلك المرحلة بذلك المنطق.
– ابن كيران ليس في حاجة لهذا التوقيت ولا لهذا الإجراء حتى ينال تلك الثقة أو يحافظ عليها، فهي من باب تحصيل الحاصل، الذي جسدته الارادة الملكية حين التعيين في رئاسة الحكومة، وزكاه مشوار أربع سنوات من الاصلاحات المقدرة في رصيد الوطن ولصالح المواطنين، هذه الإصلاحات التي يؤكد ابن كيران في غير ما مناسبة، أنه ما كان لها أن تنجز لولا انخراط جلالة الملك ودعمه لها.
– إن موقف العدالة والتنمية من الملكية موقف ثابت، لا مكان فيه للمتاجرة أو البحث عن المقابل، ودفاعه عن المؤسسات دفاع مبدئي، ينطلق من قناعات راسخة وليس موقفا تتحكم فيه السياقات وتتقاذفه التدافعات، وهو نتاج نقد ذاتي امتد لسنوات ومحصته تجارب ومنعطفات كثيرة، وتأكدت سلامته وصواب رؤيته بالوقائع والشواهد المتعددة، ومن كان موقفه في هذا الحجم وبتلك المبدئية ليس مضطرا لاقتناص فرص عابرة كالانتخابات لاستدرار عطاء أو جلب منفعة طارئة يقايض بها موقفه، وليس مضطرا أيضا أن يتاجر بمبادئ تجسد جوهر وجوده وتعطي معنى لكينونته.
– قد يحاول الخصوم هزمنا بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة في أي نزال بيننا وبينهم، وقد ينالون منا بقدر هنا أوهناك وتلك سنن الله في التدافع لن تجد لها تبديلا أو تحويلا، ولكن لن يستطيعوا أبدا أن يوقعوا بيننا وبين الملك ولو اجتمعوا لذلك جميعا، بعدتهم وعددهم، فالمناورة لا تهزم المبادئ، والحيلة لا تقهر العزائم، ورصيدنا من المصداقية ووفاؤنا للثوابت لن تنال منه المكائد.