كلمة الموقع
وحتى قبل أن تبدأ الحملات الانتخابية الرسمية، يبدو أن حرارة الاستحقاقات المقبلة ستكون مرتفعة جدا، ورهانتاها بالنسبة للاحزاب المشاركة فيها ضخمة، ليس فقط لأنها أول انتخابات بعد الدستور الجديد، او باعتبار الصلاحيات الجديدة الممنوحة للجماعات الترابية خصوصا المجالس الجهوية، ولكن وهذا الأهم أن الحسابات السياسية المتحكمة في تشكيل السلوك السياسي للاحزاب المشاركة فيها، لم تتخلص بعد من تركة الهزيمة النكراء التي منيت بها بعض التشكيلات في نزال 25 نونبر 2011، كما أنها لم تتحرر من عقدة الخوف من اكتساح العدالة والتنمية لهذه الاستحقاقات، وللبرهنة على هذا الدفع لن نحتاج الى بذل جهد كبير، ذلك أن الكل اليوم في بلدنا المغرب يعلم علم اليقين أن عملية التأجيل المتكرر لموعد الاستحقاقات الجماعية وترحيلها وبسبق الإصرار من سنة 2012 التي كانت مقررة لأن تجرى فيها، إلى اليوم وهو آخر ما يمكن أن تؤجل إليه، واختلاق كل المبررات في الخفاء والعلن لاستدامة حالة الاستثناء التي تعيشها مؤسسة دستورية من حجم مجلس المستشارين، رغم الكلفة الغالية الماسة بصورة البلد، كانت وراءها “فوبيا” بالغة جراء صدمة 25 نونبر، التي أدخلت أطيافا متباينة وغير منسجمة من تشكيلات الجسم السياسي العليل الى التوحد على توقيف مسار البناء المؤسساتي لما بعد الدستور وعرقلة عملية استكمال ذلك البناء مهما كلف الأمر، وخلق التعلات البليدة والتلويح بالتهديدات العنترية التي لا تخيف أحدا ولا يصدقها حتى الأغرار من الناس بَلْهَ أن تنطلي على عين الرقيب المتابع لتموجات المشهد السياسي والعارف بخلفيات مده وجزره.
وقد يحتج علينا البعض أو يلوح في وجوهنا، بدعوى ما الذي كان يمنعكم أنتم من المضي قدما في استكمال بناء مؤسسات ما بعد الدستور الجديد، وأن الانتخابات ومواعيدها متعلقة بإرادة الحكومة وجاهزية إدارتها على تدبير هذا الورش، وأن موقع العدالة والتنمية في قيادة الحكومة وبرفقة شركائها، كان بإمكانهم تفويت الفرصة على المعارضة وجرها الى انتخابات تكون حظوظها فيها وافرة، ورغم أن هذه الدعوى تبدو للوهلة الاولى متماسكة نظريا، إلا أنها تفتقر لإسناد واقعي يدعم صدقيتها ويعزز تماسكها، حيث إنه وفي كل العالم لا يمكن المرور الى لحظة الانتخابات دون بناء توافق بين مكونات المشهد السياسي، ولا يمكن لأي طرف واحد أن يحسم بمفرده في تفاصيلها ولا أن يستحوذ على القرارات المتعلقة بها مهما كان موقعه ومهما كانت نسبة تمثيليته، فكل انتخابات تسبقها محطات أساسية تتعلق في جانبها التشريعي مثلا، بتوفير العدة القانونية وإخراج النصوص المتعلقة بها، بالإضافة طبعا الى التدابير التنظيمية الاخرى، وهي كلها تحتاج الى تشغيل آلية التوافق مع ما يستلزم ذلك من تنازلات يحكمها أساسا الحرص على سلامة المحطة الانتخابية وحشد الإجماع أو على الأقل أعلى نسبة من الاتفاق بشأنها، وهذه العملية ليست من اليسر بمكان والخفي فيها أكبر من المعلن، ولسنا في حاجة للتذكير كيف كانت المعارضة تدمن منهجية عرقلة عمل المؤسسات وتعطيلها، بتوقيف عمل لجنة الداخلية مثلا غير ما مرة وهي بصدد نقاش القوانين التنظيمية المتعلقة بالانتخابات، وكيف يتم استكمال النقاش وتهريبه الى لقاءات التفاوض مع الداخلية، ليتم الرجوع الى اللجنة بدون بيان أسباب الخروج منها ولا العودة مرة ثانية لها بل التصويت أحيانا بالاجماع او الامتناع أحيان أخرى، رغم كل الدفوعات والتهديدات والتي وصلت بالبعض جراء “سخونية مرضية في الرأس” إلى التهديد بمقاطعة الانتخابات.
وعليه فإنه في تقديرنا لم يسبق أن شهدت انتخابات سابقة في تاريخ المغرب هذا النوع من الترصد الإعلامي والتشوف الشعبي والترقب السياسي، وهو على كل حال مؤشر إيجابي يعكس نوعا من الجاذبية للعملية الانتخابية ما كانت لتتحقق لولا استثنائية اللحظة السياسية، وضخامة الرهانات المرتبطة بها، وأيضا وجود عرض سياسي يمثله العدالة والتنمية يوفر دفعا لتعزيز تلك الجاذبية، ويستنفر خصومه الى المشاكسة عليه بشتى الوسائل، مادام ذلك العرض يستهدف الأنموذج الذي تم تكريسه لعقود في المخيال العام للمغاربة تجاه السياسة وممارسيها، ويشكل تهديدا حقيقيا لاستمرار ذلك الأنموذج، ولكن هذا لا يجب بتاتا أن يدفعنا الى الاعتقاد ولو افتراضا، أننا قد قطعنا مع التحكم كبنية ولا نقول كتنظيم أو توجه في انتاج السلوك السياسي للفرقاء، فما زالت الأخبار هنا وهناك تكشف عن عدم حياد بعض السلطة، وعن استعمال أساليب الترغيب والترهيب لثني المرشحين عن الالتحاق ببعض الأحزاب وخصوصا العدالة والتنمية، بالإضافة الى الاستعمال المكثف للمال والنفوذ وتوظيف القبيلة في بناء الاصطفافات، وكلها أساليب موروثة عن الحقب السابقة ومتجذرة في السلوك السياسي عند البعض، وهي تعكس أن بنية التحكم التي تخترقنا جزءا من بنياتنا ونخبنا ما زالت متجذرة، ومازالت عصية على الإستئصال، رغم أن رصيدنا في محاصرتها مقدر اعتبارا للمنجز الحكومي في إطار الحكامة وربط المسؤولية بالحساب، ولكن عملية التفكيك تحتاج الى جهد مضاعف وسقف زماني متسع، وإلى انخراط مجتمعي كبير فلا تملك حكومة مهما توفر لها من قوانين وآليات لتنفيذها، القدرة على تجفيف منابع التحكم والفساد.
فالمعركة أساسا معركة وعي وضمير، وأيضا معركة إرادات سياسية يجب أن تكون واضحة في تصديها لتفكيك بنية الفساد، عوض السقوط المدوي أما جاذبية عائدها الانتخابي والتهافت على ترشيح أباطرة الانتخابات وأدوات التحكم، فلا منزلة بين المنزلتين في معركة التصدي للفساد والتحكم، ولا رتبة وسطى بين الفساد وضده.