ماذا بعد الانتخابات؟

محمد عصام

 بعد أن حطت معركة الانتخابات أوزارها، وعاد كل فصيل الى تأمل حصاده منها، لينتشي بفوز قد يراه هو وقبيله مؤزرا في حين يراه غيره بعيدا، كل وحساباته يختار لنفسه زاوية لرؤيته ويعدد من خلالها مكاسبه ويقفز على وقائع شاخصة وأرقام شاهدة، لأنها لم تكن مطواعة لزاوية رؤيته، منقادة لأهوائه أو حتى نزواته، فليس غريبا أن يصبح الجميع  وفق ذلك منتصرا والكل فائزا مادام الفوز لا تحدده معايير موضوعية ومادامت الأرقام رغم صرامة لغتها تبقى مطواعة وقابلة للقراءات المتعددة، وعليه فإن الذي يهمنا في هذه المقالة ليس استنطاق الأرقام ولا تتويج فصيل دون آخر فائزا في هذا النزال المتعدد المحطات، مادام الشارع المغربي قد عبر بكل مسؤولية ووضوح عن توجهه وانحيازه، ورسالتُه السياسية واضحةٌ من حيث انحيازها لصوت التغيير الذي دشنه المغرب منذ الحراك و ما تلاه من خطوات ذات بُعد تراكمي في اتجاه التأسيس لمغرب ممكن يقطع مع ماضي الفساد والاستبداد، خطوات انطلقت مع خطاب التاسع من مارس ودستور 2011، وتعززت بتدابير لا حقة يشكل المسلسل الانتخابي الاخير والمكثف الذي خرجت منه بلادنا منتصرة إحدى حلقاتها الأساسية والتأسيسية. وستختار لمقاربتنا الزوايا الآتية:

1-/ لابد من التمييز في هذا المسلسل الانتخابي المتعدد المحطات، والذي ختمت حلقاته بانتخاب أعضاء مجلس المستشارين، بين نوعين من الاقتراع، لكل واحد منهما خصوصيته التي كان لها بكل تأكيد تأثير في النتائج المحصل عليها، فاقتراع الرابع من شتنبر لانتخاب أعضاء مجالس الجماعات ( القروية والبلدية) وأعضاء مجالس الجهات، كان اقتراعا عاما ومباشرا، وكانت سلطة المواطن فيه عبر صوته واضحة المعالم، فباستثناء بعض الارتهان الى سلطة المال والركون لنفوذ الأعيان في البوادي، فإننا لا يمكن أن نختلف في أن هذا الاقتراع كان ” يفيض” بحمولة سياسية لا تخطئها العين، خصوصا في الحواضر الكبرى، وكشف عن توجهات سياسية واضحة للهيئة الناخبة، و أظهر توجهات الطبقة الوسطى وحتى طرفا مقدرا من الطبقات العليا، التي تم الترويج بإصرار ومكابرة وبلا ترو أو تنسيب، أنها حتما ستصطف في خندق المعارضة وسيحكم فعلها الانتخابي منطق العقاب للاختيارات الحكومية. لكن نتائج هذا الاستحقاق قوضت الأساس النظري الذي حاول البعض إلباسه نوعا من الوثوقية التي سرعان ما انكشف زيفها وتهافتها. بالمقابل تعرضت رموز محسوبة على المعارضة بهزيمة نكراء وفي ما اعتبر لزمن طويل معاقل لها، وهي رسالة تؤكد المضمون السياسي الطافح لهذا الاستحقاق بهذا الاعتبار.
أما بقية حلقات الانتخابات، بدءا بانتخاب رؤساء وأعضاء مكاتب مجالس الجهات،  والجماعات ومجالس العمالات والأقاليم، وانتهاء بانتخاب أعضاء مجلس المستشارين، فقد أجريت عبر اقتراعات غير مباشرة وغير عامة، هيئاتها الناخبة محددة وهي التي يصطلح عليها بالناخبين الكبار، وعلى هذا المستوى اتضح بما لايدع مجالا للشك أن هذه الهيئة وفي كل المحطات السابقة، كانت مهووسة بلعبة المكاسب والمواقع، متردية في أدائها السياسي الى قاع الحضيض حيث اللامعنى، وغياب المسؤولية والارتهان الكلي لمنطق الغنيمة، انفلاتا من أي التزام حزبي أو أخلاقي، وكانت بذلك النتائج من جنس مقدماتها، وهي بغض النظر عن تفاصيلها والأطراف المتلبسة بجرمها، كانت طعنة في خاصرة الديمقراطية ومساسا فضيعا ببهاء اللحظة السياسية،  وتبديدا لرأسمالها الرمزي في إعادة تشكيل الوعي السياسي الجمعي للمغاربة، وارتددا حقيقيا عن مستحقات ومكاسب الزمن السياسي الذي انخرط فيه المغرب، لقد جسدت نتائج هذه الانتخابات على هذا المستوى وبشكل عام نكسة حقيقية للرأي العام الذي وجد أصواته المعبر عليها في الاقتراع المباشر فجأة، عرضة للبيع والشراء في سوق النخاسة السياسية.
مما يجعلنا نخرج باستنتاج أساسي، أن الارادة الشعبية المعبر عنها في الاقتراع العام المباشر كانت طافحة في التعبير عن انحيازها لخندق استعادة السياسة لجاذبيتها،  وفي إعطاء هذا الاستحقاق مضمونا سياسيا واضح المعالم في رهاناته واختيارته، بينما أصرت دوائر تقتات من  الماضي وتحن لزمن تم القطع معه بإرادة ملكية واضحة وبتأييد شعبي لا غبار عليه، على تذكيرنا بأنها مازالت متشبتة بمواقعها وأن لديها من الأدوات ما يجعلها تتكيف مع كل الظروف والمستجدات السياسية، وأن لحظة الحراك وإن قلصت مجال مناورتها فإنها لم تستأصل بعد بنيتها ولم تبطل مفعول أدواتها المتجددة باستمرار.

2/- إن الخصم الحقيقي للشعب المغربي بكل أطيافه وقواه الحية تم تحديده بوضوح وتوصيفه بجلاء منذ الطلائع الأولى للحراك، كما أن الوصفة أيضا التي تم التوافق عليها عبر ما تلا  لحظة خطاب التاسع من مارس، تحمل ضمن مشمولاتها تحديدا لهذا الخصم عبر تبني تدابير ترمي لهزمه وإبطال مفعول آلياته، حيث إن الشعب المغربي اعتبر من غير تردد أو مواربة، الفساد والاستبداد خصماه الذي يجب هزمهما وبلا هوادة، فهل استطاعت الاستحقاقات الأخيرة فعلا إبطال زواجهما الذي يخدم استمرار وجودهما كمتلازمين يتبادلان المنافع ويأمنان لبعضهما البعض أسباب الوجود، وينسجان لنفسيهما شبكة معقدة من المنافع والمصالح المتبادلة، يخترقان بها بنية الدولة والمجتمع على حد سواء، ويبنيان من خلال ذلك نسقا من العلاقات الملتبسة يتزاوج فيها العائد الانتخابي مع الريع الاقتصادي، والنفوذ مع سلطة القبيلة،  والموقع الحزبي مع السلطة الرمزية والمستندة على عائد الخدمات والوساطات والمنافع وحجم العلاقات وتشابكها ومردوديتها؟! إن الفساد والاستبداد وجد له صيغة عملية في “التحكم ” كبنية قائمة الذات  ومتكاملة الأوصاف، وكمنطق ذي قدرة على صياغة آليات اشتغاله وتجديدها عبر السياقات المختلفة، والقادرة على خلق منظومة غير متناهية من الزبناء والمرتفقين الذين يرهنون وجودهم السياسي  واستمرارهم الرمزي بالولاء لهذه البنية وخدمتها والاستفادة من عائدها وخدماتها، فإلى أي حد تمت خلخلة هذه البنية؟ وإلى أي حد تم إبطال مفعول آليات اشتغالها؟
فعلا لقد تم حصار هذه البنية إلى حد بعيد خصوصا على مستوى الانتخابات العامة التي شارك فيها المواطنون بشكل مباشر، حيث أفرزت نتائجها خريطة سياسية معبرة عن توجهات سياسية واضحة، وتم إبطال مفعول هاجس فرض التوزنات عبر آليات الضبط والتحكم، ولم يعد واردا التدخل السافر للادارة في فرض اختيار معين أو في تنصيب فائز خارج اختيارات المواطنين، بل كنا ولأول مرة في تاريخ الانتخابات بالمغرب على موعد مع نتائج أعطت أغلبيات مطلقة لحزب العدالة والتنمية في المدن والحواضر الكبرى، مما لم يكن مسموحا به في فترات سابقة ولا متخيلا البتة، بسبب استحكام عقلية الضبط وهواجس التوازنات على سلوك وذهنية الادارة، والاستثمار في ضعف وتشردم الفاعلين السياسيين. كما أن ضخ دماء جديدة خصوصا في تركيبة مجلس المستشارين من فئة المثقفين والكوادر العليا، أكيد أنه سيساهم من جهة في حصار النموذج الذي تنتجه هذه المؤسسة، وأيضا في كسر الصورة النمطية السلبية لهذه المؤسسة في المخيال العام للمواطنين، وبالتالي ضخ منسوب أعلى من المصداقية في الاداء السياسي ونسج المصالحة بين هذه المؤسسة والمواطنين.
ولكن رغم ذلك فإن بنية التحكم حافظت على تماسك بنيتها، عبر الاستثمار في الآليات التي تم التمكين لها في حقب سابقة، بمنطق الضبط وهاجس التوازنات، حيث شكل النظام الانتخابي بشكل عام بعيوبه وعدم توازنه والذي ُوضعت معالمه وفق المنطق المشار إليه أعلاه وفي سياقات مختلفة، مجالا آمنا وجذابا،  استثمر فيه التحكم ما راكمه من خبرات طيلة المراحل السابقة، فالتقطيع، ونمط الاقتراع، و احتساب أكبر بقية، وعدم تعميم نظام اللائحة، وتحديد العتبة، وعدم اشتراط مستوى تعليمي في المنتخبين، وأيضا عيوب اللوائح الانتخابية، كلها أدوات وآليات تم استثمارها للالتفاف على الإرادة الشعبية،  وإعادة تدوير التحكم عبر إعادة رموزه التي أخرجتها الإرادة الشعبية من الباب لتعود من النافذة، وفعلا تم تأمين وصول نفس الوجوه الى مجلس المستشارين بنسبة تقارب الخمسين في المائة.

3/- لتحصين المكتسبات التي أفرزها النزال الانتخابي في الشق السياسي منها تحديدا، لزم خلق اصطفاف سياسي وانتاج حركة دفع مجتمعية، لتشديد الحصار على بنية التحكم ومنع اقتياتها من مكاسب الحقب السابقة، وتجديد آلياتها للتكيف مع السياق السياسي الذي يعيشه البلد، وذلك بالترافع لتحصين الارادة الشعبية الحرة والمباشرة وتوسيع مجالها، والدفع في اتجاه مراجعة منظومة الانتخابات في شموليتها وفي اتجاه الانتصار لتجسيد الارادة الشعبية بعيدا عن توجهات التحكم ومنطق الضبط وهواجس التوازن، ثم أيضا الاستمرار في معركة فضح وكشف آليات التحكم عبر مختلف الوسائط الممكنة لتشكيل الوعي الجماعي، استحضارا لخطورة التحكم و مضاعفاته على البناء المؤسساتي للبلد وعلى الثقافة والممارسة السياسيتين، كما أنه أصبح من الحيوية بمكان دعم الاتجاهات والشخوص المتصفة بالمصداقية بمختلف توجهاتها وانتماءاتها الحزبية، خصوصا بعد الفشل الذريع والهزيمة النكراء لعدد من القيادات التي رهنت نفسها وأحزابا تاريخية ووطنية لآلة التحكم، لكنها لم تجن إلا الخسارة والفضيحة.
فقد انبجس نقاش عمومي حيوي عقب هذا الاستحقاق يسائل أعطاب الفعل السياسي، وأدواء البنيات التنظيمية لعدد من الاحزاب، ويستشرف الإمكانات الهامة التي كشف عن وجودها السلوك الانتخابي لعموم المواطنين والمتسم بالذكاء والقدرة على التقاط مقتضيات اللحظة السياسية، وانكفاء التحكم للاستثمار فقط في إمكاناته الذاتية والمتاحات القانونية التي ورثناها عن سياقات سابقة، في غياب تام لأي دعم مكشوف المعالم والأوصاف من الإدارة أو لنقل من الدولة عكس ماكان سابقا، حيث أصبح ظهره عاريا تماما ويمكن محاصرته،  فهذه الإمكانات ستفتفتح بكل تأكيد أفقا جديدا متاحا وممكنا يستطيع أن يشكل رهانا ذا جاذبية ومردودية لنخب جديدة.

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.