الموقع
من قدر الله الذي لا يخطئ ولا يحابي أحدا، أن جعل للأعمار نهايات منصوبة، وللآجال كُتبا معلومة، وجعل ألم الفراق منتصبا في أعتابها، مبثوثا في أحشائها، وألهم الانسان قدرة على الفكاك من إصر عقالها، ومنحه قوة الفكاك من غل قيدها، فتصير لحظات الحزن المضنية باعثة على التفكر السديد في حِكم مجري الليل والنهار، وتأملا في أسرار الموت والحياة، ومدعاة لاستلهام العبرة وتثبيت الفكرة، وجعل موت الأعزاء والعظماء موعدا لإحياء الأثر، وتعقب الفِكَر، وموسما لحصاد الفوائد وجني الثمر.
وتحل علينا ذكرى رحيل فقيد الوطن سي عبد الله بها، الذي ملأ ذكره الطيب الآفاق، وتداعت لفقده قلوب المغاربة أجمعين من كل الفئات والمواقع ، ووحَّدت جنازتُه كل الأطياف والألوان، وأبرزت وفاته حاجَتنا الأكيدة إلى قدوات تنعش فينا قيم المواطنة، وتغرس في سلوكنا معاني الإلتزام والوفاء الصادق للمبادئ، وأثبت فقده حجم الخسارة التي تكبدتها السياسة في هذا البلد الأمين، بانصرام نموذج حي، ومثال جلي لزواج السياسة بالأخلاق، وأثبت الإجماع الحاصل على شخصه أن في المغرب متسعا واعدا، وأملا صاعدا على إمكان تخليق السياسة وضخ المعنى في متنها وسلوك الفاعلين ضمن حقلها، وأن كل الضجيج التي تحدثه نكرات زمن الرداءة وكل نقعها، ليسا إلا جعجعة بلا طحين، وزبدا بلا فائدة، سرعان ما ينجلي ويذهب أثره، وأن ما ينفع الناس ماكث بإذن الله في الأرض، وأن غرسه سيؤتي أكله ولو بعد حين.
مر حَوْل كامل على رحيل فارس الحكمة ورائد الصمت البليغ، ومرت أحداث بدونه، لكن روحه بقيت ملهمة لمن ساروا على دربه، واستهواهم طربا ونغما حُداؤها، الموصولة عراه ببينات الذكر وجليات السنن، وعِبر السِّيَر، وحِكم الصالحين، وكسب الأولين والآخرين، مرت انتخابات الجماعات الترابية بكل أصنافها ومراتبها، وتأكدت من خلالها خلاصتان:
– الأولى تتعلق بصحة المنهج الذي أسس له الراحل، وكابد في التمكين له، وقدّم من أجله كل لحظات عمره، فقد كان رحمه الله شديد الإيمان بصحة منطق المشاركة السياسية، وأن ثماره تنضج على مهل وفوائده لا تبدو إلا بعد حين، وكان يصر رحمه الله على أنه على عكس منطق الصراع الذي يستحث كل ما هو سيء لدى أطرافه، فإن التعاون والتناصح والتعامل بإحسان الظن، إنما يغلب الخير المركون فيهم، وتتيسر بذلك أمورهم وتمضي في اتجاه قطف ثمار التوافق الذي لا غالب فيه ولا مغلوب، حيث أن هذه الانتخابات أثبتت بلا رجعة، أن الدولة رفعت يدها بشكل نهائي عن التصرف في الإرادة الشعبية، ولم تعد مسكونة بهاجس الضبط عبر مصادرة تلك الإرادة إما تزويرا أو تلاعبا، وإما تدخلا مباشرا أو غير مباشر في توجيه تلك الإرادة، وبذلك تم سحب المستند الأعلى الذي يعتمد عليه دعاة الصراع، من كون الدولة لا يمكن فطامها عن التلاعب في إرادة الناس، وأن قدَر المشاركة السياسية هو إكسابها الشرعية بلا عائد في رصيد الشعب، ولا رَجْعٍ ذي أثر في كسبنا الديمقراطي.
– والثاني يتعلق بسلوك الساسة ، وتنكب فئة عريضة منهم ومن الاحزاب عن الرشد في تعاطيهم مع السياسة النبيلة، وإصرارهم على انتاج الرداءة في أبشع تجلياتها، إذ شهدت هذه الانتخابات انتكاسة في السلوك السياسي لعدد من الفرقاء، خصوصا فيما يتعلق بالالتزام بقيم الوفاء بالعهود والتحالفات، وخلفت جراحات لدى عموم المواطنين الذين لم يستسيغوا قدرة البعض على نكث العهود والانحلال من الالتزامات، خصوصا في الانتخابات غير المباشرة وتشكيل مكاتب الجماعات ومجالس الاقاليم والعمالات والجهات، التي يكون فيها الحسم من طرف الناخبين الكبار، وعلى هذا المستوى أصبحت الحاجة ملحة لاستلهام الدرس “البهوي البهي” في هذا المجال، وتثبيته إن على المستوى التشريعي والقانوني، أو المستوى القيمي والتربوي، وتتأكد حيوية هذا الدرس حين نستقرئ خلاصات نتائج التصويت المباشر للمواطنين التي انتصرت لقيم الأخلاق ونظافة اليد وجدية التدبير، وهزمت في كثير من الأحيان وخصوصا في المجال الحضري صولة المال وجبروت الوجاهة والنفوذ.
وختاما، إننا لسنا في حاجة ليوم أو أيام لنحيى ذكرى فقيدنا، بالتداعي للتجمعات والندوات، والركون لصقيل الكلام واسترجاع وجع الفراق، بل إننا في أمس الحاجة للمناكفة عن مدرسة بهية المعالم، ومقارعة الرداءة في كل السوح والمجالات، وتثبيت القيم التي عاش لها وبها الراحل، نحن محتاجون لتجديد فحص منطلقاتنا والتثبت من انسجامها مع مرجعيات الانطلاق الأول، وتسديد كسبنا بما يتيح سداد رمينا، محتاجون لتدقيق مفردات خطونا حتى تكسب ثباتا في المسير، ووضوحا في الأفق، ورجاحة في التفكير، ونجاعة في الاختيار.
رحم الله سي عبد الله بها، وجعل قيمه حية تسعى في الانفس والآفاق تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، اصلها ثابت وفرعها في السماء.