محمد عصام
في الوقت التي توارت فيه مظاهر العنف والتخريب التي تصاحب في الغالب حركات الاحتجاج الاجتماعي، سواء تعلق الأمر بالإضرابات العامة أو الوقفات والمسيرات الاحتجاجية، وعُدَّ ذلك في رصيد النضج والرشد الذي بدت ملاحمه تستوي وتزين محيا الفعل الاحتجاجي عموما في المغرب، فإن الأنشطة الرياضية وخصوصا لقاءات كرة القدم ذات الجاذبية القصوى، أصبحت كابوسا حقيقيا يؤرق بالاضافة الى الأجهزة الأمنية، الأسر والنخب وعموم المواطنين، وبدل أن تكون تلك المباريات فرصة للترويح عن النفس في نهاية الأسبوع أصبحت جحيما للجميع، مما يجعلنا أمام ظاهرة تستوجب التوقف عند ملامحها والغوص في خلفيات ومبررات وجودها وانتشارها الذي لا يعرف حدودا ولا يتوقع أحد حجمه ولا مداه.
لقد أضحت فئة عريضة من اليافعين والقاصرين وقود هذه النار التي تحرق كل شيء في طريقها، كما أصبحوا هم ذاتهم أول ضحاياها بامتياز، مما يجعل الكل مدانا ولو بمقدار في نشوء هذه الظاهرة أو في التعايش معها أو في التستر عنها، إن النزوح نحو العنف يدين الجميع ويجعل كل خيارات التنشئة الاجتماعية محل اتهام وتقصير، كما يجرد مؤسسات الحفاظ على الأمن العام من الفعالية ونجاعة عملياتها، فالاحزاب السياسية وجمعيات المجتمع المدني، ومنظومة التعليم، ورسالة المسجد، ووظيفة الفن وكل أشكال التعبير الجميل، ومسؤولية الإعلام، ونجاعة البرامج الحكومية في تقاطعاتها الإجتماعية والاقتصادية والثقافية، وقبل ذلك وبعده الأسرة، كل أولئك يشتركون في تقاسم جريرة هذا العنف الذي ” ينتقم” به ومن خلاله المجتمع من نفسه، مما يجعلنا نميل إلى أن هذا الانزياح نحو العنف بكل تمظهارته المختلفة في الشارع والمدرسة والملعب وغيرها، يعلن بوضوح فقر الجاذبية في كل ما تنتجه شعبا ومؤسسات، وأن فئة عريضة من أبناء هذا الشعب يعيش عزلة حقيقية ويفجر تعبيراته الرافضة للوضع بكثير من العنف والانتقام من الذات، وأن خطاب وبرامج الأحزاب و الجمعيات و المؤسسات الرسمية حول الشباب لم تجد بعد موطن قدم داخل الأوساط المفترض فيها أن تكون الزبون الأول لهذا المنتوج، فهل يتعلق الأمر بمحدودية الامتداد وعسر الانتشار؟ أم إن الأمر أعمق من ذلك ويتعداه ويساءل مضمون هذا الخطاب ذاته وجدوى تلك البرامج إن وُجدت أصلا؟ هل المجتمع المغربي يعيش خريف قيم التعايش والسلم بين مكوناته، وأن انفجارا لا قدر الله يعتمل في أحشائه قد يفصح عن نفسه في أي وقت وحين؟ أم أن سلمنا الاجتماعي الذي نعتز به ونعتبره عنوانا على خصوصيتنا وفرادة تحربتنا، ليس بالعمق والتجذر القمين لضمان استمرار هذا الحال في ظل هذا التهديد الذي تشكله مظاهر الاحتكاك العنيف بين هؤلاء الشباب، وبينهم وبين أجهزة الأمن؟ أم أن هذا الوضع طاريء ولايهدد في شيء دوام حالة التناسق والسلم الاجتماعيين، أو أن أثره محدود في الزمان والمكان ومتحكم في نتائجه على كل حال؟
بداية لا أحد يمكن أن ينكر إفلاس منظومتنا التربوية إلى حد يجعلها فاقدة لإمكان انتاج القيم والاستثمار في السلوك، مادام الكل اليوم متفق على قصور الرؤية ومحدودية النتائج إن على المستوى الكم أو الكيف أيضا، كما أننا لا نحتاج إلى جهد كبير لإثبات محدودية دور الأسرة في متابعة وتقويم وتوجيه سلوك أبنائها تحت ضغط المتطلبات المادية وانحسار مفهوم الأسرة وخلخلة بنيتها جراء التحولات الاجتماعية والاقتصاية وتصاعد حالات التصدع الأسري، كما أنه ليس سرا أن محاضن التنشئة الاجتماعية الأخرى من أحزاب وجمعيات ومساجد وغيرها تعيش على هامش الايقاع المتسارع للحياة وضغوطها المتجددة باستمرار، وأن أغلب هذه المحاضن إما مفتقد للرؤية أصلا، أو تائه عن الوظيفة تبعا، أو فاقد للقرار عاجز عن الفعل، وكلها أسباب تجعل الوقع والتأثير منعدما، والنتيجة هي ما نراه اليوم من تخطي هذه الفئة المعنية بمقالنا هذا لحاجز الخوف، وتحويل لحظات الفرح الجماعي الى مآثم للجميع، وامتلاك القدرة الكبيرة على تحمل تعذيب الذات وتعذيب الآخرين.
اقرأ أيضا
قد لا يكون لهذه الظاهرة القدرة على التشويش على أصالة نموذجنا المجتمعي المتعدد والموحد، وقد لا تشكل تهديدا وجوديا له، لكن حذاري أن نتحول إلى مجتمعين، واحد نركن له ونعتز به، يشكل مشتركا مستحقا لنا جميعا، وآخر يعيش معنا وبجنبنا، يتحين الفرص للافصاح عن ذاته، ويتعمد أن يوقع على وجوده بخلق الصدمة لدينا جميعا بالعنف وبإشاعة الرعب وتعميم ثقافة الدم، فهل لدينا من الوقت والفرص متسع للابقاء عليهما معا جنا إلى جنب، أم أن صوت المعركة الذي يجب أن لا يعلى عليه صوت، يستحثنا للنفير في مواجهة أسباب هذه الظاهرة في حرب شرسة وبلا هوادة وكل من موقعه وضمن مشمولات مسؤوليته؟!