خالد رحموني
يبدو أن الصالونات السياسية انتعشت في بلادنا في الآونة الأخيرة.
كان يمكن بالطبع أن نفهم هذا الانتعاش في سياق عودة المعنى والروح لحياتنا السياسية التي تعطلت منذ زمن بعيد، لكن المؤسف أن ما تشهده بعض هذه الصالونات من حراكات يبعث على الريبة والخجل، ليس فقط فيما يتعلق بطوابق النميمة السياسية التي أصبحت جزءا من مقدمات نسج الكلام الرخيص وبسطه بلا مسؤولية هكذا في الطرقات على عواهنه، وإنما بالنقاشات العامة حول كثير من القضايا التي تطرح، وهي بالمناسبة ليست نقاشات جادة ومسؤولة بقدر ما هي مناكفات منفلتة وتصفية حسابات حاقدة، تنبعث من نفوس أصابها الإعياء والرخاوة.
وأسوأ ما فيها أنها تعبر عن الأنا العصبية والحزبية المستغرقة بالثأر والوهم والخوف والأنانية وضيق الأفق، كما أنها تكشف عن شح ونضوب بل جفاف ضرب طبقة من النخبة الفكرية والسياسية في البلد، وهو يعبر بحق عن أزمتها العميقة في التعامل مع المجتمع أولا، ومع أصول وآداب الخصومة السياسية عند الاختلاف، ومع النظام السياسي الذي كانت جزءا منه، فتنكرت له حين أخرجت منه.
أفهم بالطبع أن يكون للشخصيات العامة دور في الحياة السياسية بعد أن تترجل من مواقعها، وافهم أيضا أن يأتي هذا الدور في إطار المعارضة والنقد السياسيين للحكومة والمؤسسات الأخرى، وافهم ثالثا أن يكون لدى هذه الشخصيات حنين للعودة إلى المناصب والكراسي، أو رغبة في لفت الانتباه وتقديم العروض البديلة،
لكن ما لا أفهمه – ولا يمكن لأحد أن يقبله أيضا – هو أن يظهر هؤلاء بمظهر المخلص والمنقذ للبلد من كل الكوارث والعوادي، والمطهر للمجتمع من كل الأخطار التي ارتكبها الآخرون، الذين هم في طليعتهم،
ثم أن يحاولوا إقناع الجمهور بأنهم مجرد ضحايا دفعوا ضريبة الدفاع عن الوطن، وضحوا من اجله حتى بمواقعهم،
ولو أنهم اعترفوا هنا أنهم كانوا جزء من المشكلة، أو أنهم يتحملون بعض الخطأ، لقلنا: شكرا لكم على جميل بذلكم،
لكنهم للأسف يصرون على أنهم أبرياء فيما الآخرون – كلهم – شياطين وأشرار، يتربصون بالبلد ولم يقدموا له أي شيء.
في “بازار” اللغط السياسي الذي أصبح مفتوحا أمام الباحثين عن مقعد في قمرة القرار العمومي واللاهثين وراء نيل فائض سلطة غير مستحقة ومرتبة غير متناسبة مع كفاءتهم واقتدارهم،
أو هي لعبة البحث عن الأضواء من جديد، أو أمام الراغبين ببيع بضائع “وطنية” مغشوشة بهدف استقطاب جمهور المتفرجين البسطاء،
ويمكن أن تسمع وترى ما لا يخطر على بالك من إعلانات وتنزيلات: بعضهم يحذر من “غرق السفينة” وبعضهم ينذر بتحول العتاب إلى غضب، وآخرون يعتقدون أن خروجهم من الواقع السياسي مؤامرة دبرت بليل، وان البلد من دونهم سيكون على حافة الانهيار.
لا تسأل بالطبع عن فضاءات التسويات السياسية والصفقات النخبوية والسلطوية، أو الأحرى التي تريد علمنة الدولة من بوابة تحرير السياسات العامة من قيد مرجعية الدين، ومنها تغيير المناهج الدراسية بطمس معالم الدين منها، او غيرها من اللوبيات التي لها حديث آخر.
كنا سنصفق لكل هؤلاء الذين أتحفونا بتحذيراتهم ونصائحهم الثمينة، لو كان لدينا أدنى ثقة بحرصهم على البلد، أو كان لديهم ما يلزم من شجاعة لتقديم هذه النصائح في الوقت الذي كانوا فيه شركاء في القرار السياسي ذات زمن مضى، أو في المكان الذي يفترض أن يشهروا فيه مواقفهم،
لكن ما حدث شيء آخر لا علاقة له بالخوف على البلد، ولا بالتعبير عن هموم الناس وقضاياهم، ولا بالعمل السياسي النظيف الذي يستلزم المصداقية والصراحة والإنصاف والتضحية، ولا حتى بصحوة الضمير التي كان يمكن أن تفهم في سياق الاعتراف بالخطأ وإدراك الحكمة ولو جاءت متأخرة،
وإنما تتعلق بحسابات حزبية وايديولوجية حاقدة وصغرى، حيث التزاحم على اقتسام الغنائم، وحيث المناكفة من اجل التشويه والتجريح، وحيث التصفيات السياسية التي تنعدم فيها روح المنافسة السياسية المفتوحة والشريفة، وحيث الرغبة في تطهير النفس وتبرئتها أمام الناس، والتكفير عن أخطائها، ليس بكفارات الاعتراف والندم والعمل، وإنما بمزيد من الخداع.
صحيح أن بلدنا يمر الآن في مخاض انتقال ديمقراطي، ويحتاج لمن ينصح ويحذر ويرشد إلى الصواب،
لكن الصحيح أيضا هو أن بعض هؤلاء الذين ترتفع أصواتهم كانوا جزء من المشكلة، ولا يمكن أن يكونوا جزء من الحل، وهم مجرد شامتين لا ناصحين، ولا يحظون بثقة الناس لأنهم يعرفون تماما سيرتهم السياسية،
وبالتالي فان كل ما يصدر منهم، حتى وان تحول إلى أخبار عاجلة، لا يستحق الانتباه، لأنه مجرد أصوات وعواصف تحوم في أجواء ملبدة بالشك والريبة، ومزدحمة بمعاني الشماتة والرغبة بالانتقام، ومحملة بالمكر والخديعة والبحث عن المصالح الشخصية والبطولات الفارغة، وشراء ما يلزم من شعبية ترقص على أشباح المحبطين والجائعين والخائفين على بلدهم حقا من العاديات…