محمد عصام
لقد كانت الاستجابة الشعبية لنداء التظاهر تنديدا بتصريحات الأمين العام للأمم المتحدة بخصوص الصحراء المغربية، فوق كل التوقعات، وبرهن الشعب المغربي مرة أخرى على أنه حاضر وبقوة في صلب قضاياه المصيرية، وأن كل الاصطفافات تفقد مبرر وجودها حين يتعلق الأمر بالوطن وسؤال الوجود، ذلك أن الجموع التي شكلت فيضانا بشريا غمر كل الطرقات المؤدية الى الرباط وكل شوارعها، وحدت المغاربة بكل أطيافهم وفئاتهم وطبقاتهم الاجتماعية، وبدا من خلال قسمات وجوه المشاركين في المسيرة، أن الوحدة الكامنة فينا أقوى من كل ما يفرقنا، وأن نداء الوطن أعمق فينا من كل موجبات التنابز الفئوي أو الحزبي أو غيرهما، لكن السؤال الأعمق هل يكفي أن تجتاحنا غمرة الانتشاء بدفء الوطنية، ونحن نصدع بالملايين، ونهُّب بالملايين، ونفيض أمواجا بشرية وطوفانا هادرا، للرد على التحديات التي تعترض طريقنا نحو استيفاء مشمولات وحدتنا الترابية وإخراجها من عنق وضع اللاحل الذي تراوحه قضيتنا الوطنية منذ عقود؟
بداية دعونا نكون واقعيين فإن احتجاجنا على ما صدر عن بان كي مون، وإن كان يجد ما يبرره في عدم التزامه بمقتضيات الحياد اللازم توفرها في مسؤول أممي من حجم الأمين العام للأمم المتحدة، وكذا انزياحه عن الإطار العام الذي وضعه المنتظم الدولي لمقاربة موضوع الصحراء ضمن البحث عن حل سياسي متفاوض حوله وبموافقة كل الأطراف المعنية به، فإن هذا لا يجب أن يحجب عنا حقيقة كون بان كي مون ليس سوى موظف لدى الامم المتحدة، وبالتالي فمن المستحيل تصور أن ما صدر عنه مجرد انطباعات شخصية أو انزلاقات غير محسوبة من طرفه، فالأمر أكبر من ذلك بكثير، وأي توهم أن الأمر يتعلق بتقدير شخصي لبان كي مون، لا يعدو أن يكون إلا نوعا من التنفيس عن أزمة حقيقية أو محاولة لتزييف وعينا بعمق الإشكالات التي ترتبط بمصير قضيتنا الوطنية، وطبيعة التحديات التي بدت من خلال مؤشرات متعددة أنها تنتصب بقوة في طريق حسمنا لهذا الملف، وعليه فلا بد منذ البداية التأكيد أن المنظمة الأممية كما هو معلوم عند الجميع تعكس وضعا دوليا غير متوازن وغير عادل بالمرة، وأن طبيعة نشأتها وسياقات ولادتها في أعقاب الاحتراب الدولي الثاني، وما أفرزه من معطيات جديدة ومراكز قوى متباينة، جعل هذه المنظمة وخصوصا هياكلها التقريرية العليا وعلى رأسها “مجلس الأمن” ونظام وصلاحيات الأعضاء الدائمي العضوية داخله، أدواتٍ طيعة لتحقيق مصالح الأطراف القوية، والتي حصنت مواقعها بنظام قانوني غير عادل ولا متوازن يضمن استمرار الهيمنة، وتطويع المؤسسة الدولية لأهداف ومطامح بل مطامع القوى المهيمنة، فما الذي تغير بين الأمس واليوم حتى يعطي الأمين العام لنفسه صلاحية إنهاء الاطار العام الذي انطلق منه المنتظم الدولي في تعاطيه مع ملف الصحراء؟ وأي مصالح استجدت على أجندة الفاعلين داخل الهياكل الأممية حتى يلتقط بان كي مون الإشارة و”يصرِّف” مضمونها في هكذا شرود؟ ثم ما موقع أصدقاء المغرب داخل هذه المنظومة؟
أكيد اننا لا نملك إجابات كافية على الاسئلة أعلاه ما دام الأمر يتعلق بمصالح لا يمكن الإفصاح عن مضمونها وأن أصحابها يفضلون بقاءها ضمن آلية التوجيه من غير ضرورة التصريح بها، ولكن من المؤكد جدا أن تغيرات مهمة وقعت في أداء الدبلوماسية المغربية، وأن مسارات جديدة تم تدشينها في علاقات المغرب بمحيطه وفي البحث عن آفاق جديدة لمصالحه الحيوية في أبعادها الاقتصادية والسياسية، قد تبدو بمثابة تمرد على الجلباب الذي يراد للمغرب أن لا يكبر عليه أبدا، بما يضمن استمرار انسياب مصالح المهيمنين ودوام التبعية لهم، لقد دشن المغرب بقيادة جلالة الملك وبشكل إرادي وواع، انفتاحا غير مسبوق على العمق الافريقي، وانخرط في شراكات مع الأشقاء الأفارقة على أرضية غير هيمنية عنوانها رابح/ رابح، مما يجعله في مهب قصف لوبيات لها تأثير في السياسة الخارجية لكثير من الدول ذات المصالح الممتدة في العمق الافريقي، كما أن خيار تنويع أشكال التعاون الاقتصادي بالانفتاح على تجارب شرق اسيا خصوصا الصين وكذلك روسيا ثم حجم الاستثمارات المرصودة لتحرير القرار الطاقي المغربي وفك ارتهانه لتقلبات السوق الدولية، دون نسيان التوجه التنموي في الاقاليم الجنوبية في اتجاه تنزيل النموذج التنموي للأقاليم الجنوبية، بما يعزز قدرة المغرب على استيعاب ابناء المنطقة وإدراجهم الكلي في عجلة التنمية الواعدة في المنطقة، وقطع الطريق على خطابات التيئيس الذي تضخ لصالح أطروحة الانفصال وتنعشها، مما يعني أننا بصدد تركيبة من التوجهات تحافظ من جهة على استقلالية القرار الوطني وتحقق توازنا في مجال التعاون الدولي، ومن جهة أخرى نحن بصدد إنجاز في الميدان يدمج ساكنة المنطقة في الدورة الاقتصادية مع توفير ضمانات حقيقية للتنافس الديمقراطي في تدبير الشأن والثروات المحلية، عبر تنزيل الجهوية الموسعة، وكل ذلك بمرافقة انفتاح على الآليات الدولية في مجال مراقبة حقوق الانسان، مما يوفر الضمانات لاندماج الساكنة في هذه المقاربات وتجفيف منابع خطاب الانفصال، وبالتالي صناعة واقع على الأرض لا يخدم وضع “اللاحل” الذي تستثمر فيه أطراف خارجية كل حسب مصالحه وخدمة لأجندته.
فما المطلوب إذن بعد هذا التوصيف؟
بداية مسيرة الرباط جاءت لتكثيف الوعي الجماعي للمغاربة بخطورة الوضع، وقد نجحت في إحداث يقظة في المخيال العام يستنفر لحمة التضامن والاتحاد بين التشكيلات التي تخترق المجتمع وتؤثر فيه أفقيا وعموديا، ولكن هذا ليس كافيا في التأثير على القرار الدولي، الذي يحتكم الى آليات قانونية، يجب على الدبلوماسية الوطنية بمستوياتها المتعددة، التصدي لتكاليفها وتوقيعها بأكبر قدر من النجاعة والكفاءة، كما يقتضي الأمر كذلك استنفارا للوسائط الاخرى من الدبلوماسية المؤسساتية والشعبية بمنطق الفعل الواعي وبعيدا عن ردود الأفعال التي غالبا ما يلجأ لها في مثل هذه الحالات، ومن جانب آخر ولكي يتم الانخراط الكامل في تنزيل الأوراش المفتوحة على الارض في المنطقة، لابد من تنقية الأجواء وبناء الثقة بين الدولة والمنطقة من جهة وبين الوسائط التمثيلية (الاحزاب تحديدا) والساكنة من جهة أخرى، فلم يعد مقبولا أن يتم تنزيل مشاريع ذات الاهمية البالغة سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية كالنموذج التنموي للاقاليم الجنوبية، أو كانت سياسية كالجهوية الموسعة، عبر آليات فاسدة وأدوات غارقة في الفساد والريع، فلقد آن الأوان أن تطوى تلك الصفحة بكل البؤس الذي تحمله والانكسارات التي رافقتها على الدوام، باختصار إن العنوان المتاح لنا لتأمين خياراتنا المتحدث عنها سابقا تقتضي وجود ديمقراطيين حقيقيين، فما دامت كل خياراتنا تدندن حول الديمقراطية سقفا ومشروعا، فإنه بلا دمقراطيين حقيقيين سيبقى كل ما سلف مجرد أمان لا غير.